أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
بعض كتب الأطفال لا نستطيع مقاومة رغبتنا في اقتنائها من فرط إعجابنا بها.. وهناك أيضاً كتب قد لا تنال استحساننا علي مستوي أو أكثر من مستوياتها، نشتريها أيضاً ولكن! لغرض في نفس يعقوب كما يقولون، وهذا ما حدث معي بالنسبة لكتاب موجه للأطفال بعنوان “إليزابيث”. وهذا الكتاب تحديداً له وقعٌ خاص في نفسي ليس لطيفاً علي الإطلاق! فهو بارز التوجه، يذكرني بواقع تعيس مُتشرزم نعيشه، يُلهينا عن تذكر المآثر أوالمآسي! يُميت فينا الأمل بأن قضايانا حية، وأن لنا حقوق لا تسقط أبداً بالبيع أو التدليس أو التقادم.
يحكي الكتاب مأساة إليزابيث.. يحفرها في الذاكرة بقصد واضح عبر تفاصيل إنسانية بسيطة، فتصبح حدثاً درامياً تتعاطف معه جموع الإنسانية.. وقد اكتفت الكاتبة بإخبارنا أن إليزابيث هو اسم العروسة أو الدمية.. وليس اسم بطلة النص التي لم يذكر اسمها ضمن أحداث القصة التي تبدأ أحداثها في ألمانيا. وفي مقدمة الكتاب الموجزة أخبرتنا الكاتبة أن هذه القصة هي قصة والدتها.. وهي تهديها لكل الأطفال الذين اضطروا لأن يتركوا الأشياء التي يحبونها!.(لاحظوا كيف استقطبنا هذا الإهداء الموجز عبر هذه الجملة، وجعلنا جزء من مأساة إليزابيث).
أخبرتنا الكاتبة عبر النص عن علاقة الفتاة الرائعة بعروستها إليزابيث.. وتوحدهما معاً حتي أن ظلهما أصبح واحداًّ! ( لا عجب من عدم ذكر الكاتبة إسم الفتاة)، ثم مضت تصور لنا الأشياء الجميلة في عالمهما المشترك، الحرباء الخضراء التي تحتفظ بها في برطمان زجاجي.. السلحفاة التي أهداها عم الفتاة لها.. وكلبتها فيفي. ( وهي أيضاً الأشياء ذات الطابع الإنساني التي يتعلق بها كثيراً الأطفال عامة، ولا يرغبوا أبداً في الاضطرار لتركها). بينما تلعب الكلبة فيفي بإليزابيث.. تعض ذراعها بأسنانها فتترك أثراً واضحاً.. فتذهب الفتاة بإليزابيث لوالدها الطبيب في عيادته ليُعالج لها ذراع عروستها.. ( اختيار موفق لمهنة الأب الإنسانية).
لاحظت الفتاة فجأة أنها عندما ترفع يدها في حجرة الدراسة بالمدرسة للتفاعل مع معلمتها.. تتجاهلها المعلمة! ( إشارة قاسية جداً من طفلة عن علاقتها بمعلمتها). كما لاحظت أيضاً أنه أصبح هناك جندي يقف باستمرار أمام عيادة والدها، يتأكد من أن لا أحد يدخل العيادة غير المرضي من اليهود! .. وفي أحد الليالي التالية.. أيقظتها أمها من النوم لتخبرها أنه يجب عليهم الرحيل الآن وبسرعة، وأنه لا مجال لأخذ أي شيء معهم!
رحلت الفتاة مع عائلتها، وتركت ورائها مضطرة عروستها إليزابيث. بعد أن وعدتها أمها بأنها ستعود يوماً لتأخذها. ( أي قهر يمكن أن يُحفر في ذاكرة طفلة صغيرة اضطرت للرحيل فجأة ليلاً دون أن تأخذ معها أشياءها التي تحبها). وبعد رحلة سفر ومعاناة طويلة بسبب الحرب آنذاك (التشرد والمعاناة).. استقرت الفتاة وعائلتها في “أميركا” وأدركت مع الوقت أنها قد ذهبت إلي الجانب الآخر من العالم.. وأنه لا مجال للعودة لأخذ إليزابيث مرة ثانية.
مرت أعوام عدة.. تزوجت الفتاة وأنجبت.. وفي عيد ميلاد ابنتها السادس فكرت أن تُهديها ( عروسة).
مضت الأم لشراء عروسة لابنتها.. كانت تبحث في قرارة نفسها عن إليزابيث! (إنها هي.. جزء منها) لكنها لا تري عروسة يمكن أن تشبهها أو تحل محلها! إلي أن شاهدت محلاً يبيع الأشياء القديمة ( الأنتيك)، ووجدت عروسة تشبه إليزابيث! أمسكت بها.. وكشفت عن ذراعها حيث المكان الذي عضته كلبتها فيفي بأسنانها.. لم تصدق نفسها وهي تري ذات الأثر الذي تركته فيفي سابقاً علي ذراع إليزابيث وفي نفس المكان! اشترت العروسة لابنتها.. وهي لا تصدق كيف عبرت إليزابيث حدود الزمان والمكان لتصل إليها.. ( عادت إليزابيث لأنها كانت دائماً موجودة في ذهنها، فكل شيء يمكن استعادته. فهل كانت إليزابيث هي الرمز!).
بالنسبة للرسوم المصاحبة للنص، أعتقد أنها ليست ذات مستوي فني عالٍ. فهي بتشكيلها وألوانها، وأساليب الفنان الأدائية تعتبر عادية وباردة إلي حد كبير، و كان من الممكن أن تكون أكثر إشراقاً وبهجة في النصف الأول من الكتاب قبل رحيل العائلة لتنقل لنا حالة السعادة والفرح التي تعيشها طفلة مع عروستها إليزابيث. كلك أتصور أن هناك تعمد مقصود برسم إليزابيث بطريقة لا تبدو فيها كدمية، وإنما كطفلة صغيرة!، وفي المشهد الأخير.. رسم وجه الأم وتمييزه بالأنف المعقوف الذي عُرفت به الشخصية اليهودية كملامح، بالإضافة إلي تأكيد هوية الجندي الواقف أمام عيادة الأب من خلال وضع الشارة النازية المميزة علي ملابسه العسكرية. عدا ذلك.. فقد أعجبني مشهد محطة القطار بتكوينه وشيوع الأسود فيه. وفي رأيي.. لم تحمل الرسوم في عمومها شحنة تعبيرية موازية لموضوع النص وأهدافه! وبدت “فاترة” إلى حد كبير.
هكذا يحكي اليهود قصتهم لأطفالهم وللعالم، ينكهونها بطريقتهم، وهذا حق كل إنسان مؤمن بقضيته. حتي الشخص المتجبر أو الظالم، فإنه يستبسل ويتمادي في الدفاع عن موقفه بكل السبل المتاحة! المزعج في الأمر، هو حالنا نحن كعرب في محنتنا الطويلة وتسليمنا باليأس! يجب أن نحكي لأطفالنا بطريقة إنسانية معاصرة تاريخنا.. حكي يُحفر في الوجدان لا تمحوه السنين، وبطريقة صادقة غير مُفتعلة. تهديهم لليقين وللإصرار بشموخ وعزة.. (ليس علي طريقة: أمجاد يا عرب أمجاد).
مازالت إليزابيث موجودة في مكتبتي بين الكتب، بيني وبينها حاجز نفسي كبير.. تذكرني بأننا مقصرين، بينما لا يعدم الآخر حيلة أو فرصة إلا وينتهزها ليؤسس لقضيته بهدوء وإصرار.
النص والرسوم ل “كلير نيفولا”، وتم النشر في 1996 باللغة الإنجليزية. جدير بالذكر أن المؤلفة لها عدة كتب للأطفال، وقد حصلت على جائزة “جين أدامز” للأطفال لكتاب الأطفال الأصغر سناً.
ربما أكون متحيزة أو غير عادلة ـ وهذه من المرات النادرة ـ .. من يدري! لكن هذا ما شعرت به
.. .. .. .. ..
دكتورة عبير حسن.. باحثة أكاديمية.. تكتب وترسم للأطفال.