د.محمد على يكتب: الشرنقة /قصة قصيرة

د.محمد على يكتب: الشرنقة  /قصة قصيرة

د.محمد على يكتب: الشرنقة /قصة قصيرة

انتفض واقفاً عندما أحسَّ أنه لأول مرة أصبح عبئاً، تركهم وسط النظرات التى باتت أجدى من الكلام، حديث العقول يكاد يفتك بجماجمهم، يتبادلون النظرات فيما بينهم فى خلسة، تذكّرهم بأيام الطفولة عندما كانوا يتهامسون قبل كل مرة يطلبون فيها من أبيهم شيئاً فيلبيه.. ما من مواجهة بعدما سمع كل شىء، رد فعل أبنائه كان صادماً، اتخذ القرار بالرحيل، الرحلة تختلف هذه المرة.. لن يتغرّب ليجمع لهم أموالاً يتمتعون بها ثانيةً، علم منذ أن كان هناك أن شيئاً ما مفقود، حلقة ما غير مكتملة، أحس بعدم اكتراث أبنائه بعودته أو بقائه، هل انعدمت مشاعر الإنسانية لديهم؟ أصبح بالنسبة لهم مجرد (ماكينة صرّاف آلى) تقدم لهم النقود فقط، لا حياة فيها ولا مشاعر.. كلمة (بابا) أصبحت قاتمة تخلو من الحياة، كان القرار صعباً، فهو لم يَعُد كى يصبح غريباً فى وطنه، وسط أبنائه، حرمته أيضاً سنوات الابتعاد عن أصدقائه القدامى، فكلٌّ أصبحت له حياته الخاصة، كل ما يشغل باله ويُؤذى مشاعره هو افتقاد الأحفاد، السنوات الثلاث الماضية كانت كفيلة بالتعلّق بهم، أراد أن يعوّض ما فات، فتنقّل للعيش بين أبنائه، حتى وصل الحال إلى ما عليه الآن.
تابع الأبناء وصلة العتاب التمثيلى والنظرات التى لا تعبّر عن حقيقة المشاعر، حتى ابنته التى كان يحبها حباً جمّاً لم تهتز لها شعره، أراد أن يخرج من دائرة الصراع، تركهم فى حديث الصمت الاصطناعى.. الخالى من أى عواطف، فى هذه الأثناء كان قد غادر.. لم يضع فى حساباته، وهو رجل الحسابات والموظف المثالى فى البنك الذى عمل به هناك، أن شيئاً كهذا سيحدث، اتخذ قرار العودة، بعدما قام بتأمين مستقبل أبنائه الثلاثة الذكور، وإنهاء إجراءات زواج ابنته الصغيرة، التى قام بعمل حفل زفاف أسطورى لها بأحد الفنادق الفاخرة، بعد عودته، وكانت هدية الزفاف سيارة أنيقة، كانت تحلم بها.
ركن إلى مقعد بإحدى الحدائق العامة، أخذ يفكّر، وشريط حياته يمر كفيلم تسجيلى قصير، يعلم أنه الآن بات قريباً من النهاية بعد أن أتمّ رسالته، داهمه الجوع، ففتش فى جيوبه وأخرج كل ما فيها من أموال واستعد لمواجهة الأيام المقبلة، لم يكن المبلغ كثيراً، فكل ما لديه أعطاه لأبنائه، حتى شقته القديمة أعطاها لآخر أبنائه الذكور بعد وفاة زوجته ليتزوج فيها، تناول ما يسد به جوعه، وأسدل الليل ستاره، ولم يجد إلا أن يقضى ليلته بالحديقة، فنام بعدما تمدّد فى منامةٍ أهداها له صديقه فى الغربة، استيقظ، نظر فى هاتفه، وجد بطاريته فرغت من المكالمات اللاهثة التى لم يرد عليها طوال الليل، باحثة عن مكانه، أخذ يجوب الشوارع، وكأنه يراها لأول مرة، فلها رونق آخر، مرت الأيام، نفدت النقود، حاول أن يثنى نفسه عن قرار عدم العودة بعدما طغى حنينه لرؤية الأحفاد على عقله، ولكنه أصر على موقفه، فقدَ الأبناءُ الأمل فى العثور عليه بعد محاولاتهم البائسة، كانوا يخشون من كلام الناس، باتت لهفتهم على أبيهم تتضاءل مع مرور الأيام، هناك حيث روحه الهائمة التى باتت الشوارع والطرقات تعتنى بها، أفضل مما يعتنى به الآخرون، لا يشعر بالغربة، يتوه وسط الزحام والناس فيندمج، الكل أهله والبيوت والعمارات سكنٌ له. أطلق لحيته، تناثر شعره بعشوائية، فقدَ أناقته المعهودة. مع قدوم الشتاء لم يعد مكانه المخصص للنوم بالحديقة مُجدياً، البرد قارص، والندى المنبعث من الحشائش ينخر فى عظامه ويؤلم مفاصله، يلتمس حرارة الشمس فى الصباح أعلى الكوبرى الذى احتل فيه مكاناً فى الوسط تقريباً بعيداً عن كمائن الشرطة، يأنس بضجيج السيارات والزحام فى الصباح، ويداعبه قائدوها بالمصابيح فى الليل، وضع علبة بلاستيكية أسطوانية على الرصيف، عَلّ المارة يضعون فيها ما يسد به قوت يومه، فقد استحيى أن يمد يده، فلحت فكرته واستطاع أن يشترى مشمّعاً من البلاستيك ليصنع منه واقياً بعدما أغرقته الأمطار بالأمس القريب.
بات مسروراً عندما انتهى من صناعتها، وانفرجت أساريره بعدما حمته من الأمطار الرعدية ليلة أمس، رفع رأسه إلى السماء، ودعا ملك الملوك أن يعجّل بأوانه.. أقبل صباح يوم جديد مشمس بعض الشىء، خرج من شرنقته يلتمس الدفء من أشعتها، دبّت فيه حيوية لم يعهدها منذ فترة، راح ينظّف حول مكانه ويجول بين السيارات عندما تهدّئ من سرعتها، يطلق ابتسامة ويستقبل الأخرى، يتجهّم عندما يخاف أحدهم ويغلق نافذة السيارة عند اقترابه، لكنه يستمر..
اعتاد المارة على مكانه، كان لافتاً بمنامته البلاستيكية، يهدأ الطريق ويبدأ فى جولته بين السيارات، تقترب سيارة من بعيد تقودها سيدة، تمر جواره، يطلق طفلها فى المقعد الخلفى صرخة مدوية، وهو يدفع أمه لترى ما يراه.. بعدما قام الجد بالتلويح لحفيده الصغير فى سعادة:
– ماما.. جدو يا ماما..
تنظر فى مرآتها الأمامية غير مصدقة:
– ده متسول يا حبيبى.. جدو.. راح عند ربنا.
انقطع الخيط البصرى الواصل بين الجد والحفيد بعد تحرك السيارة، تهدأ روحه بعدما رأى حفيده، وكأنه جاء ليودّعه.

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

شادية .. صورة من ألبوم الشاعر سعيد شحاتة

التعليقات على شادية .. صورة من ألبوم الشاعر سعيد شحاتة مغلقة

الشاعر سعيد شحاته يكتب: ويحيا الحلم فى فلسطين

التعليقات على الشاعر سعيد شحاته يكتب: ويحيا الحلم فى فلسطين مغلقة

الشاعر عبد الناصر الجوهري يكتب: إعترافات حاكم مخلوع

التعليقات على الشاعر عبد الناصر الجوهري يكتب: إعترافات حاكم مخلوع مغلقة

حماقة.. قصيدة للشاعر عبدالناصر الجوهري

التعليقات على حماقة.. قصيدة للشاعر عبدالناصر الجوهري مغلقة

دموعك طفلتي.. قصيدة مهداة إلى عهد التميمي من: نادية كيلاني

التعليقات على دموعك طفلتي.. قصيدة مهداة إلى عهد التميمي من: نادية كيلاني مغلقة

أمل (قصة قصيرة) لنفيسة عبد الفتاح

التعليقات على أمل (قصة قصيرة) لنفيسة عبد الفتاح مغلقة

قصة قصيرة “نظرة”

التعليقات على قصة قصيرة “نظرة” مغلقة

د. مختار أحمد هلال يكتب: هل الهلال بالخير “قصيدة”

التعليقات على د. مختار أحمد هلال يكتب: هل الهلال بالخير “قصيدة” مغلقة

الشاعر محمد ناجى يكتب: أعــــضــــــــــــائــي تـئـــــــــــــــــــــن

التعليقات على الشاعر محمد ناجى يكتب: أعــــضــــــــــــائــي تـئـــــــــــــــــــــن مغلقة

الجراح الأبية .. قصيدة للشاعرة شريفة السيد

التعليقات على الجراح الأبية .. قصيدة للشاعرة شريفة السيد مغلقة

بطعم السكر وَ “قصة قصيرة ” لـ “نفيسة عبد الفتاح “

التعليقات على بطعم السكر وَ “قصة قصيرة ” لـ “نفيسة عبد الفتاح “ مغلقة
comments
  • محمد كمال

    13/04/2018 at 2:20 م

    مؤثره جدا يا دكتور

  • غير معروف

    13/04/2018 at 11:48 ص

    عندم ينسج من حروف الكلمات انسجه حيه وتتمثل احاسيس ومشاعر تستوطن الاورده يكون ابداع الرائع د/محمد على

  • Comments are closed.

    Create Account



    Log In Your Account