محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر

محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر

محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر

التعليقات على محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر مغلقة

نحن أمام شاعر يرتكز في جل قصائد ديوانه { تايه على أكتاف الشوارع } على مرتكزين أساسيين، أحدهما ثابت، وهو ما أسميته الزماوجدانية، وأعني بهذا المصطلح المستحدث مزيجًا بين الزمان والوجدان المتزامن معه بقوةٍ وتلاحمٍ شديدين كدالة ثابتة، أما الركيزة الأخرى فهى المكان كدالة متغيرة .
تتعدد الأماكن في قصائده، ولكن الزمان يظل قديمًا ثابتًا يلازمه دومًا دفقة شجن وحزن، وأسى يكاد يلامس الإحباط كما في قصيدة {غمة} إذ يقول الشاعر…
غاظني الغمام
سايق دلاله عليَّ فوق خمسين سنة
بيني وبينه حدود الله
مبقاش ينوّر أي مطرح أسكنه
ولاده برضه بطّلوا
ياخدوا بخاطري لما روحي تهدّني….
وكما في قصيدة {مجاور } إذ يقول ..
حروفي طالعه الجبل
ترصد شروق الخيال
من دوحة المنهل
تناجي طيب الفروع
تفض جرة عسل
لهّاني صفو الطلوع عن غيمة المنزل
جرجرني قلبي الحرون
لمتاهة الحكايات….
وقصائد أخرى بين ضفتي الديوان .
ويكاد يتعلق بحبال أملٍ في مستقبلٍ مشرق، كما في قصيدته {هنقطف ورده من خده} ، قصيدة تشع أملًا، وتحث على التكاتف للعبور إلى حياة أفضل، وتحقيق أحلام تنتظر إنبلاج فجرها، إختار لها عنوانًا ضمّنه { وردة } بما لها من إيحاء جمالي ووقع مريح للنفس أيّاً كان لونها، ثم يفاجئنا الشاعر مختتمًا قصيدته قائلًا…
ونقطف م الربيع…تمره .
تخلى عن وردة عنوانه واختتم قصيدته بقطف تمرة، ولا يخفى عليه أو علينا لونها القاتم، وموت حيويتها رغم دسامة فوائدها المادية، ولم يكتف بذلك بل سارع ليضع بعدها مباشرةً قصيدة ” إعتراف” في نكوص سريع إلى الإحباط إذ يستهلها قائلًا..
لغاية النجمة الكليلة م تتعتق
من سجنها ف بدني
سنيني الجاية يوم ورا يوم
بتتراذل على شفرة أمان
قبلت تعاشرني….
لا يمكن لحسّك كمتلقي أن تغفل كونها حبالًا واهية، يداهمها الإحباط والسخرية والتهكم إنزياحات تشي بإستحالة تشبث النفس الشاعرة بها، وبإيمانٍ يكاد يرقى لمستوى اليقين، إنها حبالٌ من سراب .
هذان المرتكزان الذين سبق وتم ذكرهما، هما الأعمدة الأساسية التي ينفرد بهما محمد مطر، ويتميزبهما عن غيره من الشعراء المجيدين في عصره .
الشاعر يعيش همه الخاص في عالمه الخاص، لكنه يعي ويدرك تمامًا ما يدور خارجه في العالم المنظور، ولا أخطئ إذ أقول ” إنعزالية تامة تطل خارجها بعينين نافذتين صامتتين”، فالتجربة الشعرية عند شاعرنا ..تجربة وجدانية بحتة، انبثقت براعمها من همّه الخاص، لتطرح ثمارها خارجه، ليجني حصادها العالم المحيط على إتساعه ، ولا يفتأ الشاعر أن يذكّرنا أن همه رغم خصوصيته هو عالمنا نحن أيضَا.
ينتقل الشاعر بسلاسةٍ ويسرٍ مذهلين بين العالمين، فكل قصائده يستهلها بذاتيةٍ مفرطةٍ في التقوقع، ويغرقك في تفاصيلها البسيطة العميقة الدلالة، ثم لا يلبث أن تحمل وجدانك كمتلقي موجاتُ صوره المتتالية، لتطفو بك في بحرٍ فسيح منفتح على المعنى الكلي والعالم الخارجي، فتتعدد الأماكن ما بين بيتٍ وشارع ومدينة ومقابر، ويتنوع المحيطون ما بين أب وأم وزوجة وأطفال وزملاء عمل وحفار قبور.
لكل قصيدة من قصائده نسيجها الخاص بها، وسمتها المميزه لها، فلا تجد نظيرها في قصيدةٍ أخرى، فللشاعر المهندس في بنائه لقصائده وسائل عدة، نراه أحيانًا يعتمد النسق الناعم المتناغم الطويل كما في قصائده ..أهو ده اللي صار / عيل محتاج طبطبه / مجاور / دروة / سبحه، وأحيانًا نراه يتجمل في بناءٍ صغيرٌ حجمه، متكامل في هندسة بنائه، وروعة منظره ، ورهافة أحاسيسه، كما في قصائده ..اصطباحة / تحقيق / غمة / نظرة / مروح ، وأخيرًا نراه يعتمد المنهج التساؤلي المتتالي كما في قصائده ” أهو ده اللي صار”، ” عيل محتاج طبطبه “، ” مجاور ” إذ يقول ..
يا مقتحم بابي
لو كنت أنا السائل
تعرف ترد الضليل لبراءة البدايات ؟
تاخد بإيد الضرير للمنزل الآمن؟
تعرف ؟ .
يبني ناطحات سحاب عملاقة تتشابه طوابقها ظاهريًا للرائي، وتتعدد وتتكاثر مدلولاتها الداخلية، ويبني قصورًا دافئة جميلة ، تنساب حرارة دفئها إلى دواخلك الوجدانية، وأنت تتجول مسحورًا في غرفها الداخلية بما تحويه من دررٍ ثمينة، وتحفٍ مصورة تُسكر الفؤاد وتسلب اللب، فيقف العقل مذهولًا ومشدوهًا يتساءل…كيف تأتى هذا ؟!
وكما قال كينيث كروس” إن القصيدة لا تعني ولكن توجد “، لذا فإن تقييم أي عمل فني ينبع أساسًا من قيمته كعمل فني يتسق مع القواعد والأطر الحاكمة لهذا الفن، وتماسك مكوناته لينسج كلًا جميلًا، كما أن الأساس في أي عمل فني هو التخيل، فلا إبداع بدون تخيل، ولا أجد حرجًا أن أصف شاعرنا محمد مطر، أنه يملك بحارًا من التخيل وأغبطه عليها، فالصور تتداعى عنده وتتوالد تلقائيًا وبعفويةٍ قل نظيرها، ويتدخل وعيه الشاعرفيضفي عليها لمسات الجمال، ليُحكم صياغتها بإقتدار وتمكن، كأسنان مشطٍ تغازل جدائل شعرٍ حريري لا تبلغ العين نهايته.
ولا يجد أي ناقد حرجًا في التوقف مليًا أمام كل صورة، آخذًا بنواصي جمالها، وإحكام صياغتها، ودقة تكوينها في تكثيفٍ بالغ لكنه جد واف، بينما يعجز القارئ العادي أن يتمهل ولو قليلًا أمام تداعي الصور ، مستمتعًا بتدفقها، فينهل منها كظامئٍ يتوق للإرتواء حد الشبع، دافقًا في وجدانه رشفات شجنٍ مُسكرٍ حتى الثمالة ، ولعل من وجهة نظري أجملها وكلها جميل
” جرانين م النجمه مسعورة ”
صورة بسيطة في تركيبها اللغوي، وعميقة إلى أقصى الحدود في دلالتها الجمالية، فقد أنسن الكاتب الجرائد مستعيضًا بها عن حامليها وموزعيها أبان الفجر، واصفًا حركتهم المتعجلة بالسعار، وما أوقفني وأدهشني أيما إدهاش في هذه الصورة بالذات ، أن الإيحاء الشائع والمتولد في الذهن لحظة سماع ” مسعورة ” هو إيحاء بغيض في ذاته ، ولكن براعة الشاعر تجلت في استخدامه لهذه اللفظة استخدامًا جميلًا ومعبرًا بكفاءة وقوة عن المعنى الدلالي .

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

بينهم امرأة واحدة.. أهم 10 كتاب فى الأدب الصينى الحديث

التعليقات على بينهم امرأة واحدة.. أهم 10 كتاب فى الأدب الصينى الحديث مغلقة

الرواية والأيدولوجيا دراسة لمحمود فراج التابي

التعليقات على الرواية والأيدولوجيا دراسة لمحمود فراج التابي مغلقة

ننشر فيديو لإحدى قراءاته: وفاة الشيخ محمد محمود الطبلاوى

التعليقات على ننشر فيديو لإحدى قراءاته: وفاة الشيخ محمد محمود الطبلاوى مغلقة

محمد عطية محمود يكتب: نجيب محفوظ.. بين الفلسفة والتصوف .. “دراسة”

التعليقات على محمد عطية محمود يكتب: نجيب محفوظ.. بين الفلسفة والتصوف .. “دراسة” مغلقة

وزير الثقافة: يحيي حقي ظاهرة فريدة في الثقافة ويعكس عبقرية مصر

التعليقات على وزير الثقافة: يحيي حقي ظاهرة فريدة في الثقافة ويعكس عبقرية مصر مغلقة

هالة فهمى تكتب من وحي معرض الأسكندرية للكتاب: هواها.. سكندرى!!

التعليقات على هالة فهمى تكتب من وحي معرض الأسكندرية للكتاب: هواها.. سكندرى!! مغلقة

بني حسن تستقبل وفدا وزارة السياحة والآثار والمعهد الهولندي في اطار التعاون المشترك

التعليقات على بني حسن تستقبل وفدا وزارة السياحة والآثار والمعهد الهولندي في اطار التعاون المشترك مغلقة

د. إيناس عبد الدايم فى نعيها للدكتور يسري العزب: من أهم مبدعي شعر العامية وحبيب أدباء الأقاليم

التعليقات على د. إيناس عبد الدايم فى نعيها للدكتور يسري العزب: من أهم مبدعي شعر العامية وحبيب أدباء الأقاليم مغلقة

بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع

التعليقات على بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع مغلقة

الدكتور محمد عبد الله حسين يكتب: فليرحمه الله

التعليقات على الدكتور محمد عبد الله حسين يكتب: فليرحمه الله مغلقة

فؤاد طمان يطوي أشرعة الشعر عن عمر ناهز 77 عاما

التعليقات على فؤاد طمان يطوي أشرعة الشعر عن عمر ناهز 77 عاما مغلقة

د. رضا شحاتة يكتب الرسالة (5) : سعد الخادم .. المؤلف .. والمفكر الموسوعى .. عليك التحية

التعليقات على د. رضا شحاتة يكتب الرسالة (5) : سعد الخادم .. المؤلف .. والمفكر الموسوعى .. عليك التحية مغلقة

Create Account



Log In Your Account