أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
نشر فى ٢:٣٢م
انتصف الليل وزئير الباب يعلن عن مجيئه ، تنصت عينان صغيرتان مشحوذتان نحو ذلك القادم ، انه الزائر المعتاد لليالٍ بعينها ، تسرع العينان بالانسحاب في خزي وتزداد الهمسات والضحكات المكتومة قبل أن تطويها احدى الغرف .
هو لا يذكر عدد السنين التي شهدت تردد ذلك الرجل على امه ،لكنه منذ بدأ تمييز الوجوه جيدا ؛ حفرت ملامحه في رأسه ، وربط بين غياب أبيه في عمله لأيام وظهور الاخر .
منذ تخطى الحادية عشرة وشيء بداخله ينبئه أن الأمر مخزٍ ، حاول أن يخفي نظرات الكره والشك تجاه أمه ، حاول ألا يشعرها بمعرفته سرها لكنها عرفت ، ذات يوم لمحته يختلس النظرات من وراء أحد الابواب ،هددته بالضرب اذا اخبر احدا وخاصة أباه ، لكنها ابدا لم ترتدع ولم يكف الاخر عن المجيء ، بينما خاف هو من تهديدها وراح يختلس النظرات بحرص اكبر، وشعور بالعار يملؤه وإحساس بالشفقة تجاه أبيه يغمره ، وإحساس أكبر بالعجز يتملك رجولته.
* * *
خائنة أنا ..ربما …لكن أحدا لا يعي ما بداخلي ، بل لا يشعر بي سواه ، هكذا كنت وهكذا صرت ،كنت فتاة مغلوبة على أمرها ، ليس من حقي ابداء الرأي فيمن تقدم للزواج بي ، وكيف ذلك وهو ابن عمي الذي كتب علي أن اصبح له منذ ولدت ، وهو …هو جاري وصديق ابن عمي لكن حبا ربط بين قلبينا منذ كنا صغارا وتمنينا أن يكلل بالزواج ، رغم علمنا باستحالته حاولنا ، وكان الرفض نصيبنا ، والتعجيل بزفافي لابن عمي نتيجة محتومة ، ورغم طيبة زوجي ورغم طفلي الا ان قلبي لم ينس الاخر، وظل هو الحلم المراود لملل حياتي ، حتي قابلته صدفة ذات يوم وكأن سنتين لم تمرا ، تواعدنا مرارا والتقينا كثيرا وكسرنا كل الحواجز بيننا ، حتي صار الأمر معتادا لإثنتى عشرة سنة كاملة …لكن ..زوجي بدأ يشك بي …بعد كل تلك السنين بدا الشك يداعبه ، فهل أترك الآخر ..مستحيل ..إذن ما الحل ..ما الحل ؟
* * *
هو صديقي …هكذا كان منذ سنوات ، قبل أن يخطف حبيبتي ويحرم قلبي من حلمه الوحيد ، فتحول حبه وسنوات طفولتنا وشبابنا الي رغبة تتملكني بالانتقام منه ، ساستعيدها ، سامتلكها رغما عنه ، ستكون لي. وحدي اعلم انه مخدوع وغبي ، ووحدي أهزأ به وانتصر لقلبي .
سيكتشف الأمر …هذا ما قالته لي ..فليكن ..لن أتركها مهما حدث ، حتي لو كانت حياته هي الثمن ..لن أتركها.
* * *
الليلة زفاف ابنة خالتي ، يفصلنا عن بلدتها مسافات زراعية شاسعة ، أصرت أمي علي أن نقطعها مشيا حتى نتنسم هواء الليل العليل .
يمسك أبي بكفي الصغير ويبتسم في ود هامسا “عقبالك” ..لا أدري لِم شعرت بحزن بعينيه وهو ينطق حروفها ، بل لِم أحسست بداخلي بأسي لا سبب له ، وفجأة قررت أن أخبره بسرها ..نعم سأفعل ، لا يستحق ان يخدع أكثر من ذلك وهو الزوج والأب الحنون …سأخبره بعدما نعود من زفاف ابنة خالتي..الليلة .
توقفت أمي عن السير هاتفة بنا ” سأربط حذائي ..توقفا”
وتوقفنا ..أدار كل منا ظهره للزراعات ونظرنا تجاه أمي وهي منهمكة في ربط الحذاء ، أحسست وكأن أصابعها ترتعد ..هل كانت حقا ترتعد ..
انتزعتني صرخة مكتومة ، نظرت الي مصدرها فاذا أحدهم وقد ظهر من بين الزراعات يهجم علي أبي من الخلف ويكيل له طعنات بسكين ، صرخت ، حاولت ان القي بنفسي نحوه ، لكن يدين شديدتين أمسكتا بي وأبعدتاني عن المشهد ، التفت فإذا بها أمي ، قاومتها وعدت لأصرخ ..ابي أبي ، كتمت أنفاسي بيد غليظة وسيطرت علي جسدي الضئيل ، اختنقت صرخاتي واختنقت الدموع بعيني وانا أري أبي يذبح امامي وتسحب جثته بين الزراعات .
ابتلعت قهرا يسكنني وسددت نظرات حاقدة تجاهها ..وتجاهه ..خرج من بين الزرع بعدما وارى جثة ابي ، نظر الي بقسوة ودماء ابي تقطر من بين اصابعه .
اتجه نحوي ولطمني بعنف وخرج صوته كالفحيح مهددا اياي بالقتل ان اخبرت احدا بما رأيت ، بينما هي تركتني بعد ان اطمأنت لصمتي واسرعت تجاه الجثة لتتأكد من موته ، خرجت بعدها ممسكة بحجابها بين يديها وقد اغرقته الدماء قائلة انها خنقته به لتؤكد وفاته .
في تلك الليلة لم اختلس النظرات عليهما ، اغلقت باب غرفتي جيدا وابتلعتني دموعي ، لكن احساس العجز تلك المرة غادرني ..نعم غادرني .
* * *
ثلاثة أيام مرت والبكاء لم ينقطع عن عينيها ، جميعهم يصدقون حزنها ووحدي اعرف الحقيقة .
احكمت قبضتي علي ذلك الكيس البلاستيكي وانا
أتجه بخطوات حاسمة نحو باب القسم ، دلفت إلى غرفة الضابط ووضعت أمامه ذلك الكيس ، وحذرته من أن يلمس ما به ، فان بصماتها عليه ودماء أبى تغرقه ، ثم رحت أقص عليه كل شيء.