أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
المدن كالأشخاص، لكل منها بصمة فريدة لا تتكرر، قد تتشابه مع مدن أخرى فى بعض تفاصيلها وإن ظل لكل منها سَمْتَهَا الخاص، النظر من شباك الطائرة للمدن يحيل الجغرافيا إلى خطوط دقيقة على بنان إبهام الأرض، تتشكل البصمة بفعل المناخ والثقافة والمعتقدات والتعليم وكذلك بفعل الأساطير والخرافات وعوامل أخرى مباشرة وغير مباشرة، ينصهر الجميع فى آتون واحد ثم تُطبع البصمة وتظل دون تغيير حتى وإن تغير الزمان، قارن المدن الشرقية ببعضها، سمات واحدة ونكهات مختلفة؛ تختلف شوارع القاهرة عن مثيلتها فى دمشق والرباط والرياض، كذلك المدن الغربية ونمط بنائها حول ميدان كبير تقع على محيطه كاتدرائية يقابلها مبنى البلدية، المحافظة، لكن بروكسل غير باريس غير مدريد، ومدريد غير الأندلس.
احتفظت مدن الحضارة العربية فى إسبانيا بطُرِزِها الفريدة، ملك العرب أوربا حين اتحدوا وذهب كل شيء مع الريح حال اختلفوا، لا يُبقى الشقاق على أثر، تفتتت الدولة الأموية بعد نحو ثلاثة قرون من تأسيسها على يد عبد الرحمن الداخل وبدأ عهد الطوائف فالمرابطين فالموحدين وما كانت كل منها سوى فصل من فصول التشتت والتشظي. بنى العرب إشبيلية بمبدأ (على قدر أهل العزم تأتى العزائمُ)، شيدوا المباني والشوارع والميادين بعمارة سبقت زمانها، فأبهرت وتُبهر؛ أسس أبو يوسف المنصور بالله المسجد الأكبر بمئذنته المعروفة باسم “الخيرالدا” بقاعدة مربعة يتمدد من مدخلها إلى قمتها مسار حلزوني من دون سلالم تسمح انسيابيته للمؤذن بالصعود إلى منصة الأذان الواقعة على ارتفاع يناهز المائة متر ممتطيًا دابته، بعد سقوط الأندلس تحول المسجد إلى كاتدرائية والمئذنة إلى برج أجراس.
يهطل المطر فيغسل الأرصفة والطرقات وأشجار اللارنج والبرتقال التى لا يخلو منها شارع، تداعب الريح الباردة أغصانها فيهب شذى زهورها ممزوجًا برائحة حبات المطر، ربما تضل بعض الحبات طريقها إلى نهر الطريق فتدهسها السيارات بلا رحمة، سألت مرافقي الإشبيلي (من يرعى كل هذه الأشجار، ولحساب من؟)، أجاب (إنها البلدية، يعتنون بها ويصنعون من ثمارها أفخر أنواع المربى حيث يُصدر معظمها إلى إنجلترا)، ثم أردف (زرع العرب أشجار المدينة القديمة وعندما تمددت الأحياء سار المخططون على نفس النهج).
طلبًا للراحة جلسنا على أحد المقاهي المطلة على المسجد الأكبر تؤنسنا زقزقة العصافير على الأشجار القريبة وتنعشنا رائحة البرتقال، وبينما أقلب صفحات الذاكرة وأرشف من حين لآخر رشفات دافئة من كوب الشاي المعتق بنكهة اليوسفي سقطت برتقالة على بلاط الرصيف المضلع، تدحرجت حتى استقرت تحت الطاولة، نظرت نحوها مبتسمًا فعقب مرافقي (لا تقلق سوف يأتي من يجمعها هى وغيرها).
اليوم لا تجد حبات البرتقال من يجمعها، ضرب فيروس كورونا إسبانيا كما ضرب غيرها من المدن الأوربية، بدأ الأمر بسيطًا إلى ان اتسع الرتق على الراتق، المصابين بعشرات الألوف والبنية الصحية للمستشفيات تعجز عن استقبالهم، قال لى صديق مصري يحمل جنسية أجنبية ويقيم بالخارج منذ أكثر من ثلاثين عامًا (لا يوجد سرير شاغر فى مستشفى، اكتظت الطرقات بالمصابين، لم يعد بالإمكان استيعاب المزيد إلا فى الشوارع)، ثم أردف ساخطًا (كشف لنا الفيروس أوهام الرعاية الصحية التى تغنت بها الأحزاب والحكومات المنتخبة)، وبين الوهم والحقيقة يواصل الفيروس اقتناص ضحاياه وكشف المزيد من الحقائق، ووحدها تنتظر البرتقالة القابعة اليوم تحت الطاولة من يجمعها، ولا يعلم سوى الله عز وجل إلى متى سوف تنتظر. حفظ الله الوطن.
“نقلا عن الأهرام المسائي”