Related Posts
الأدباتي
أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
في كل مرة، أزور فيها قريتي، وكلما جلست تحت ظل شجرة، أسأل نفسي: ما الفرق بين الانسان الشاعر والإنسان العادي؟
وفي كل مرة أجلس فيها تحت ظل القمر، أسأل نفسي وانا أبحث عن قلم: ما الفرق بين الشاعر والإنسان الشاعري؟
أتذكر مقولة للفيلسوف الألماني الشاعر فردريش هولدرلين، يؤكد فيها أن الشعر نزوع كوني بلا منازع، وان مركزية اللغة في حياة الإنسان كافية لوحدها لجعله يعيش بطريقة شاعرية في الوجود، لكنني اصطدم أحيانا بمن يقول إن الشعر لا يكتسب قيمته من ذاته، بل من شكله الفني!
والواقع أنني نشآت في بيت شعر، لكني لم ادرس التفاعيل والبحور للخليل، بل انني لا استطيع حتى الآن التمييز بين البحر المَديد، والبحر الطويل..
بين البَسيط، والوافِر، والكامِل، وبين الهَزَج، والرَّجَز، والرَّمَل، والسَّريع، بين المُنْسَرِح، والخَفِيف، والمُضَارِع، والمُقْتَضَب، وبين المُجْتَث، والمُتَقَارِب، والمُحْدَث).
كما انني لم استوعب نَظََّمَ صفي الدِّين الْحُلِي الذي أعطي مفتاحا لكل بَحْرٍ، فسُمِّيَت بمفاتيح البحور ليَسْهُلَ حِفْظُهَا.. ومن ذلك قوله: طَوِيلٌ لَهُ دُونَ الْبُحُورِ فَضَائِل ..فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِلُ. ولِمَدِيدِ الشِّعْرِ عِنْدِي صِفَات .. فَاعِلَاتُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلَاتُ..إِنَّ الْبَسِيطَ لَدَيهِ يُبْسَطُ الْأَمَلُ.. مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُ.. الي أن يقول: كَمُلَ الْجَمَالَ مِنَ الْبُحُورِ الْكَامِل .. مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُ.. بُحُورُ الشِّعْرِ وَافِرُهَا جَمِيلُ.. مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُ!
لقد بان لي بعد هذا المشوار الطويل أن الشعر بالفعل، لهفة وجدان.. قلب يحب ولا يسعه أي قلب اخر.. عين تنظر، ولا تحيط بها عين غيرها.. و في ضوء ذلك، أقول من جهتي إن الشعر عندي هو محض شجر!
وعلى سبيل المثال ..شجرة للجمال.. أهزها فيساقط الثمر.. وشجرة للسماء، تنير النجوم فيطل القمر.. وشجرة للذكريات أهزها فألمح الأحباب والحبيبات الراحلين والراحلات.. يظهر وجه “علي هلال” وهو يصعد لشجرة الجوافة “الحمراء” الملاصقة لشجرة الجوافة “الارجوانية” أسمع منه ويسمع مني أبيات شعر، فينشرح الصدر في العصرية!
والواقع أن الليل في قريتي حقول وندى وجمال وسحر.. وصوت كروان جميل يعزف على وتر!
وشجرة للأحلام.. تظهر.. فأشرد وأسرح، وأبقى هائما حتى مطلع الفجر.. تنتابني الشجون.. وشجرة للأحزان تهزني.. فينسكب الحنين.. تغادر النجوم تهدهد القمر .. تهزني بشدة.. يهدني البكاء .. والكدر!
لكنني في الصباح أهز شجرة الأمل.. أتمسك بالنشور.. بالشمس التي ألمحها فوق أسطح الدور.. بالندى فوق ثغور الزهور .. بالصبية الصغار يفسحون لقلبي الطريق العبور.. ثم تهزني شجرة الشعر.. فأهز الحروف، وأجعل منها فصوصا أو نصوص .. وحبات قمح لكل الطيور!
قال الناقد الراحل أنور المعداوي: انني أقرأ شعرا، يقول أصحابه إنه شعر ملتزم، وأقرأ قصصا يقول أصحابها ايضا إنها قصة ملتزمة.. هناك التزام كامل، هذا صحيح ولكن ليس هناك فن كامل! وانا أقصد الفن الروائي الذي تصبح به القصة قصة، واقصد الفن الشعري الذي تصبح به القصيدة قصيدة! ويسأل المعداوي: ما جدوى الشعر الملتزم اذا كانت مقالة جيدة ناضجة يمكن أن تغنيني عن “القصائد العشرين” للبياتي أو “المدينة التي غرقت” لنازك الملائكة، او “رسالة الي ترومان لعبد ارحمن الشرقاوي”، أو “شنق زهران” لصلاح عبد الصبور؟!
أمسك برمانة أو بتفاحة وعليها قطرات ندى، وكأنني أمسك بقصيدة، فاجري.. وانا اردد: علها الآن تطمئن وتهدأ وتتأكد أنني أتوق لها .. فتأتي!
