حسن غريب يكتب: إحساسات جمالية ولغة شفافة في ديوان (مكتوب بماء الورد) للشاعرة د: عزة بدر

حسن غريب يكتب: إحساسات جمالية ولغة شفافة في ديوان (مكتوب بماء الورد) للشاعرة د: عزة بدر

التعليقات على حسن غريب يكتب: إحساسات جمالية ولغة شفافة في ديوان (مكتوب بماء الورد) للشاعرة د: عزة بدر مغلقة


1 مدخل:

تتركنا الشاعرة عزة بدر عند الانتهاء من قراءة ديوانها (مكتوب بماء الورد ) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، في حالة مندهشة أمام دفقة شعرية تنتمي الى عزة بدر وحدها، ولحين نظل امام فيض من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الصوتي الذي حفل به الديوان، فمن المغامرة بالصوت الشعوري، الى الذات الحاضرة التي توجه المعنى، ثم تتتالى صور عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت الى حزن متمكن يحتمه الفقدان العاطفي او يرتفع في الصوت في اشراقة متأنبة متهلة واعدة بانتصار الروح.

يستهل الديوان بمقطع من المواقف والمخاطبات ( في مثل هذين اليومين من عام فات، كنت أحبك ، وأشتهي ما لوحت به من سكر .. تعدو اليه طفولتي بحورببن أبيضين.. وجونلة قصيرة )، فنتهيأ لاستقبال شعر يتلبسه حس البراءة والنقاء والصفاء من نوع خاص، يشتبك على نحو ما مع جدلية الشعر في مخاطبة الوجود، ففي (دافئ وممطر معاً) وهي قصيدة حب تمتح من معنى حب النقاء يعلي القلب ويسفل العقل، حيث يتقلب القلب من حال الى حال، تتبنى جدلية القصيدة على ثابت ومتغير (محب/ محبوب)، هذه الجدلية تطرحها القصيدة في عدد من الحركات المتتابعة:

في الحركة الاولى يبرز الوعد الذي تمنحه ارتعاشة القلب عند لقاء الحبيب:

(بالكاد تراقصت على جذوع نخلة.. هي أنا.. بالسعف المتواصل الهسيس والخضرة.. بالتمر إذ يسقط، ولا يد تكون في إنتظاره)

لكن حجم الوعد بديمومة الحب هل يظل، هذا ما تكشف عنه الحركة الثانية التي تبدأ باستدراك

(أنا بما أخصف من تلك الشواشي الخضر.. وما دنا.. في مثل هذين اليومين.. من صيف فائت كنت أناديك )

ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة, وتدخل الطبيعة طرفا في العلأقة الثنائية فنكتشف أن الوقفة بالمحبوب لا تعتمد الذوبان الصوفي بل تخالطها المشاعر.

وفي الحركة الثالثة تنتهي بنا اللحظة حين يباغتنا اليأس

(كنت أناديك وفي صمت… حتى لا يدركونني تحت الموج يغطسون رأسي… يلقون بالمجداف في عيني )

هكذا يتأكد الفقدان في الحركة الرأبعة ترتد الشاعرة الى ذاتها لتعايش حالة الوجد، ألفقد فلا تجد غير صوتها تغازل به الاسى والحبيب البعيد (أمسك بالباقي من الدمع وأبصرك )

وفي حركة النهاية تيقن في كشف مباغت ان النزق قد اضاع الحب (وعندما يضيقون عليّ عالمي كخاتم بإصبع.. أهتف يابحر : هلا أغرقتني بمعرفتك… ضعني وفي قلبي الصدف ، وأعين الواقع في خافية )

القصيدة الثانية وهي (وجوه وأقنعه ) تعتمد على نحو مغاير في البناء قائم على معطيين الاول المحاكاة والتاني الصور الجزئية.هذه المحاكاة تحيل الصوت الشعري ألى مناغمة شاعرية للأثر:

(على حدود حائطي الضوئي قلت لنفسي.. أن يصبح الإنسان موطنا في هذا العالم… لا بد أن يكون رؤوفا مع الغرباء… بل وبسيطا مع البسطاء… أحدث السائرين وكل عاير سبيل ) تتم المحاكاة الاستهلالية باقتدار وخصوصية تتجاوز تهلهل النثر الى فيض الشعرية.

2-الصور الجزئية:

هنا يتجاوز المتخيل عند الشاعرة بنا حد المعقول ليشبع التجربة بموجباتها فينطرح من خلال مجموعة من الصور الجزئية المتتالية التي تماثل الشطح:

(المهتدي بنوره بل والضليل..
لكنهم يتغيرون الآن …من خلف الأقنعة.. وهاربون من مدن وسيعة.. فإن نزعت عن الوجوه قناعها… فإذا بمن خلى عذاره… قد اختفى في وجه امرأة )

3- أول القادمين:

تنتهي بنا الدفقة الصوفية التي طالعتنا في القصيدتين السابقتين، ويبدأ نوع من التنوع الذي اشرت اليه في (المدخل)، فيجيء صوت الشاعرة في اول القادمين محملاً بالصدى والحلم بالصمت في بناء انسيابي قائم على التتابع

(في إذنه قرط.. وعلى شفاهه إبتسامة مخادعة… وإذ بمن يدعي وصلا بليلى… لم يرها إلا سويعة من الزمن… وذلك الذي يضاحك الجميع… في كفه التمعت مدى… بها يقشر الرءوس)

يأخذنا الحلم الصامت إلى واحة المستحيل تارة في محاولة لاستعادة ما لا يستعاد:

(يقول أنها هوت ووحدها قد أينعت… يظن أنها لوهلة أنها تفاحته… وربما وجدت من يحزنه أن تبتسم )

ثم تمضي بنا تارة أخرى الى ايغال

4- أيغال:

حيث البناء قائم على المداخلة بين ثلاث دوائر:

– الطبيعة الشاعرة:

(ربما وجدت من يحزنه أن تبتسم )

– والذات الحاضرة:

(في أذنه قرط، وعلى شفاهه إبتسامة مخادعة )

– و الزمن:

(وإذ بمن يدعى وصلا بليلى )

حيث يشاغلها حزن رومانسي ثم تجمع ما نثرت في نهاية المقطع الاخير في صورة فنية لا تكتمل إلا بقراءة القصيدة كلها فتتأكد المداخلة التامة بين الدوائر

(وتكسر المرآة ماء صورتك … قصبات الناي صوت نفسك )

5- ثم نقرأ القصيدة التي منحت الديوان اسمها (مكتوب بماء الورد )، حيث البناء قائم على التخييلات والمتخيلات الرومانسية ، ولا توقف بحيث تتبدى كليتها مطلقة بلا فواصل، هذه الأحاسيس الجياشة بصدق اللغة وعمقها الجوانب، يدعمها من الداخل

– إصماتة صوتية

(الشجرات نفسها قد غيرت أوراقها.. لكي تراها بثوبها المقصب )

فالباء المتكررة تؤكد المعنى وتضفي على المقطع موسيقاها الخاصة التي تمتد الى داخل القصيدة

(حتى السماء نفسها لتعانق الأرض.. في لذة… حتى الأنجم كانت تذوب روحها ، بملعقة من العسل ) وحتى تصل بنا الى المنتهى

(ألم يكن مختالا للطبيعة نفسها ملكا علينا )

هذه المحافظة على اصاتة الباء غلبتها ودفعت بها الى استحضار المعنى نثرا الان الاوجب للشعر أن يكون الحضور سرابا

– تسجيع ومجانسات لفظية

(في مثل هذين اليومين من عام قادم.. سيقرءون اسمك واضحا كسحابة… واسمي كامطار غزيرة أجري وراءك كغزالة تسقي الطبيعة )

ويمتد التذاذها بالتسجيع والمجانسة

(في مثل هذين اليومين من عمر قادم سيرون توقيعي على بياض شاسع )

هذه الموسيقى المستمدة من وقع كلمات ذات جرس واحد، مثل ” واضحاً/ كغزالة ” و”الورد / وبياض ” ليست محضا حيلا فنية، بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون، وتعطي القصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف المنفرد على وتري الغياب والحضور اللذين يصبحان عند المنتهى صنوين

6- ثم يتلو ما سبق مجموعة من القصائد الغنائية، ففي (قطر ندى ) يستحيل الزمن إلى ذكرى، حين نستعيدهـأ تترأوح بين العادية وغير العادية، بين جدلية النهار والليل، حيث ينسخ أحدهما أحاسيس الآخر

(الوردات التي مست أغصانها.. كتفي قد انتظرت طويلا )

لكنها حين تؤول الى ذكرى:

( لكنه كالصبح لم يأت… حتى الفساتين التي كانت لهمس يديك لم تعد على شوق بما يكفي ..)

7- وفي (أبي ) تبرز احاسيس عدمية تغطي مسطح القصيدة بمحبة الأب التي تتبدى في ( من نبعة كريمة ومن قلوب الصبارات وزهرها حسك.. لكنه على الخدود ناعم.. مس شفة وذوب شهد.. وعلى جبيني ربت قبلة.. يإتي صوتك ياأبي ) ذلك الصديد الذي يتهدد الروح يصادر كل المفردات الشعرية التى تساوي الحياة نفسها (وفي ليالينا الخوالي أحصنة البحر.. تطير بأجنحة مفضضة.. وتحط عندنا.. على شواطئ الأمل ) وينشأ صرأع بين الحب الحال والحياة التي تنجسم في ارادة القلب

(وهاهي النايات تنتظر.. توقيع أصابعي.. غنت معي أبي أبي )

8- القصيد ة (أبي ) حيث القصيدة سلسلة من العبارات المتتالية العميقة الواضحة كل الوضوع، تفضي الواحدة إلى الاخرى كأنها تناغم النص بما يناسب المقام، أليست البلاغة بقول الجرجاني (ما جاء من القول مطابقا لمقتضى الحال)

هنا تتوارى الصورة المجازية القائمة على ايجاد علاقة ليست موجودة في الاصل عند الموازي الواقعي التي فاجأتنا في القصائد السابقة، وينفسح المجال لنوع من التناغم الداخلي والعلاقات الجدلية الممنطقة طبقا لقانون القصيدة وحدها (في أي مدارج العشق ذهبت )

حيث تحيل الشاعرة ما هو منتسب أصلا الى العقل الى محض عاطفة، فهي تهب الذاكرة للقلب ليس من خلال علاقة مجازية بل من خلال تقرير انسيابي للمتلقي وحين يصبح الأب محبوبا بمفهوم الابدال النفسي للمعطى القبلى، ترتفع به الشاعرة الى كيان خفي قدسي (حللت في منازل القمر.. هل في أكمام غيمة )

ثم تعلو بالعلأقة في حنو شجي كأن الأب حبيبها وحدها (كما وددت أن يكون نداك قطرا… لسقيفة الورد تظللنا )

وهي تتخذ من علاقة التأكيد والنفي القائمة بين (إن) و (لن) أساسا لطرح العلاقات الجدلية القائمة داخل القصيدة بحيث يصبح الصراع واضحا جليا بين المحب والكاره.ثم تخرج في النهاية وتعلو بالعلاقة عن فرديتها الى الجماعية حيث يتحد الحب في المجموع (في أكثر من سماء.. وفي مطر السحب )

لكنها تنفرد في خاتمة القصيدة في أفتراض مؤكد (ألقاك في كل شتاء.. دثار حكمة… وفي هجير الأصياف.. زهرات ثلج ويرد ).

9- على موعد

قصيدة من أربع حركات تذكرنا بتقسيم السوناتا، فالحركة الأولى (حديث) الايقاع الموسيقي يتحد باللغة على نحو من هدوء متعمق حزين، الامر الذي يبطىء موسيقى اللغة ويحد جوانبها ويوشيها بمشاعر رومانسية، جدليتها (هو / هي)

(أكل شئ وكما كان على موعده… نقوش حنائي على يدي.. فمي وهو المرسوم.. على حلا ذكرى فمي )

والحركة الثانية (مجىء) متصاعدة سريعة تواكب تسارع حركته (هو) فقط

(عيناي على عهود الكحل والدمع.. أكل شئ وكما كان على موعده؟ )

الحركة الثاللة (رحيل) توضح التناقض بين المجىء ولوعة الرحيل، فينلكس بطء الوقم الدي يصاحب المشاعر الخاصة بـ (هي)

(خوفي من قمر لا يحسن الظن بليلة ).

الحركة الرابعة (اطلالة) تأتي متأملة ذاتية متفلسنة تستمد نفسها من موسيقاها الدأخلية

(ولم يقل شيئا قبل الرحيل سوى : أكل شئ وكما كان على موعده؟ )

هكذا بعد زمن حين يصبح الرحيل فراقا والزمن ملأمح وعيونا تطل فى عتمة البئر والذكريات فلا نرى سوى (المد والجزر ورجفة الورد.. الثواني )

10- ثم في مجموعة من القصائد القصيرة المتتالية القائمة على الرؤى الذاتية للشاعرة وعلى الصور الجزئية، نقرأ:

قصيدة (القمر والكلمات ) وفيها تغازل الشاعرة ذلك التوق الأصيل للأنعتاق من القيود التي تفرضها الحضارة على الحرية الشخصية

(أحيانا أشعر بالرعب.. أخشى أن يخذلني العمر ) وفي (ثروة من الحنان ) خروج على إجماع التراكيب وجماليات التصور الفني وتأكيد على ذات الشاعرة وأكثر على حريتها المستمدة من تحققها بالفن والقصيدة:

(عيناك يا حبي في الصمت تسبحان.. وفي كل ليلة أهديهما سلام قلبي.. وأجمل الكلام وكل ما لديَّ)

وفي (حتى يشاء ):

نزعة فلسفية قديمة توازي ذلك الحس الصوفي الذي يتواتر داخل القصائد، ليجسم لحظات بعينها من فرع او أسى أو خوف من خلال مفرداته الخاصة، غير أنه هنا يجىء ممتزجاً بهذه النزعة الفلسفية التي قال بها الطبيعيون، وهي أن الكون كله وحدة واحدة، ثم أخذ بها الرومانسيون حين آمنوا بأن الطبيعة تتحد بمشاعر البشر، تقول القصيدة:

(للورد في باقاته لم ترسله… أقول متعب حبيبي… للعيد قد تأخر في الطرقات والفساتين الجديدة.. أنتظرته ولم يأت.. أقول متعب حبيبي )

هذه القدرة على الفعل التي تفرضها اللغة داخل المقطع / القصيدة لعناصر الطبيعة حيث الورد يزف الى الأرض، والسماء تفقد الحبيب المتعب ، فيتأكد المعنى الطبيعي بالاتحاد بين العناصر، لكن من يوقف جموح الشعر وتقلب أحواله إلظاهرة بالشعراء وهم و كل واد يهيمون، عندما تعود الشاعرة ألى تأكيد إنسانية المعنى وتفرده وانفراد الإنسان به في قصيدة (ولم يأت) كأنها تناقض الموقف السابق وتؤكد في آن واحد (لا قمر ولا نجوم قلت للسارين في الليل.. والطريق لا خطى تروح أو تأتي.. في حرم الصمت.. في شجر الإشارة… ضوئية أو ذابلة )

موقف الفقدان الذي ولعت به الشاعرة في غير قصيدة بين ثنايا الديوأن، هنا يفارق في البناء القصائد الاخرى (فهو يعمد الى بساطة العبارة ووضوحها، والتماس الشعر في ألمعنى الكلى المنبثق من حالة الحب والعشق والفقدان والانتظار المباشر الذي يفرق بين الأحبة, بينما في القصائد الأخرى يزاوج بين المشاعر والطبيعة ويعمد الى محاولة تأكيد الحالة او اعلأئها بالصور البلاغية، ولا يفسد جمال القصيدة وبساطتها وبناءها ، فحالة القصيدة قائمة بدونها واضافتها تعني احالة الشعر الى ميلودرإما قديمة، بالاضافة الى خروج الكلمة عن السياق التشكيلى القائم على تلمس حزن الفقدان.

ثم تجيء قصيدة (تطريز خفيف على قمصان العشاق )
‏ على مبنيين هما إمتزاج الانسان بالطبيعة، وتداخل المشاعر في المعاني، هنا تعلو حالة من الوجد والتوق متخذة من كلمات الاستحالة لولا، حتى، لو، أداة لتصل بناعند نهاية القصيدة لإنعدام الفعل أو توقفه عن التحقق، ففى المطلع (أكثر ما يحزنني أن يتألق في عيوني الكون لكنك يا ماثلا في العين لم ترني… وأكثر ما يحيرني وريقات الخريف عالقة بخصلة شعري، ولم تبال.. بما بدا من الربيع في ثيابي ) والحركة الجدلية القائمة على المحاورة تنتهي الى حالة من الادراك الساطع المشوب بالحنين والألم اللذين تنتهي بهما القصيدة:

(لكنك تحدق إلى وجهي تحسبني كظل ملامحك )

لكن الشاعرية في (تحسبني كظل ملامحك ) تفقد خيط الشاعرية، وتكتب نثرا شعريا تقص فيه عن حب وعشق من الطفولة، كانت الأجمل والابهى تم سقطت في تجربة حب باهت أضاع فرصتها وبهاءها، وتحاول القصيدة أن تمرر لنا الشعر في لغة وأقعية حكاءة تقريرية، تقول في نهاية القصيدة (في قصب الناي أحصنة تعدو بحدوات مكسورة.. في حجرات العمر المقولة ).

وفي (تكوين ) تراوغنا الشاعرة والقصيدة حين نحاول مقاربتها واكتشاف معاملات الشعر عندها، وفي حداثيتها تقلب العبارة القديمة المعتمدة (أن المعنى ألكلى ليس من الشعرية في شيء، ألمعنى الجزئي هو أساس الشعرية) بحيث يمكنها اعادة الصياغة علي المحو التالي (ان المعنى الجزئي ليس من الشعرية في شيء، المعنى ألكي هو أساس الشعرية)، ولا تسمح لنا إلا بقراءة القصيدة كلها, حيث يقع التناقض من المفتتح (ترسمني …. وتغمسها )

وتتمتل علأقة التكوين الثلاثية في ثنائية الموقف في المقطع الثاني.

و (أسيرة هذا الوجه… هذا التصور… ونظرة حيري.. وإلي تحدق ) يتبلور الموقف ويصبح التناقض التام واضحا، بما هما ممثلان للقهر وبما هي ممثلة للتمرد، وفي المقطعين الثالث والرإبع، تكشف الزيف وتتجاوز الوهم فهى:

(ترسمني وكأنني الف امرأة )

وفي نص (مكتوب بماء الورد ) الذي يحمل عنوان الأضمومة الشعرية الرائعة للكتاب، تطرح الشاعرة علأقة الورد بالآخر وبالاشياء بما هي وجود فني يتماشى بوجوه حياتية تعشق الحياة ، وتخالطه التصور والظن، وكأنها تستلم ايليا ابوماضي في بيته الرائع:

ومن نفسه بغير جمال لا يري في الوجود شيئا جميلاً.

ومن يقين بأن الفن نقيض للواقع وموازٍ له في آن واحد، وبمقدار الجمال والقوة الفنيين يكون الحكم له اوعليه

( أكنت بحاجة إلى فنجانين ممتلئين بكل ذكرى…. حتى أسهو قليلا.. وربما أنسى )

فالعلاقات الفنية في الموضوع الخارجي بالنسبة للمبدع ليست الأشياء بما هي عليه بل رؤيته لها، احتضانه النفسي، حنوه وترفقه او حتى ابتعاث الجمال من قبحها وتشظيها, هذه الرؤية وان كانت للمبدع وحده فهي أبدا ليست أحادية ثابتة بل جدلية دينامية، وجزاؤه الأبدي:

(إنك كنت طوال هذا الوقت… بريا جميلا… كما حصان لا بحيد عن الطريق معاندا… إن حانت لحظة للشوق في عينيه… مغرما بأنثى )

وفي ذات ذلك النص الذي يحمل عنوان الديوان (مكتوب بماء الورد ) يخاتلها الشعر وتفر جنياته النداهة, ففي هذا التصوير القائم علي تكريس النص المبتدع لحمل عدد من العلأقات بين المطلقة والنسبي (الحصان _ الأنثى _ الشوق _الغرام )، وفي محاولتها لانتظام مجموعة العناصر المتنافرة أصلا تلجأ الى بعض الصياغات الجاهزة التي تسربل العلاقة (من سريالية) في خروج عن قانون كليتها ( بريا جميلا _بحيد معاندا _للشوق في عينيه )

يظل البناء قلقا منذ المفتتح، فيختفي القصد لكن المتضمن لا يشي به، ولو استثنينا ما دأب شعراء الحداثة من الولع به من (أكنت بحاجة إلى مربعات “سودكو” ) سيبقى

(وتنبؤاتي بالمئات من حروف ناقصة في الكلمات المتقاطعة ) هكذا تفقد القصيدة دفعها وتلتمس النثر فتتلاشى الشعرية.

لكنها تعود لتوزن صوتها وعودها العربي، فتتسق النغمات وتتقارب وتعاود العزف ففي ( في البدء والمنتهى ) صورة نفسية لخلفية الحب عند كثير من الرجال والنساء، حيث يراه الرجل لحظة عابرة، تراه المرأة بدءا وانتهاء، ثم تعلو باللحظة، فالذي يساوي عنده هزة النشوة الزائلة يتعادل مع حزنها السيال وتوقها للحب الأبدي:

( هل ينمو بيننا
‏سروة توت؟
‏كثيفة جدا وممتدة
تظللنا بها الأيام
نسارقها حباتها الحلوة
نعيد بها شيئا من الذكرى
لأدم فيها
ولأمنا حواء
بعضا من الحبات
ما تركا لنا سوى الحب
ثرواتنا من القبلات
وهذه التوتات ‏)

(أمطار مؤجلة ):

هي قصيدة تعتمد نهجا تركيبيا من ثلأثة مقاطع، تتصدر مفتتح كل مقطع (وربما ) وهي تقيم جدلية القصيدة على ثابت واحد هو انعكاس (ربما ) على مفردات الموجودات داخل القصيدة مستخدمة الصور التي تقع في عدد من التتاليات الممنطقة بمنطق خاص يناسب القصيدة، يزاوجه بناء للأصوات مستفيدا من وفي القافية بما يمثل (موتيفا) غير كاملة

( وربما يكون لي أخر ثوب أرتديه
‏وربما لورده المنقوش بالحرير
‏مقدرة خارقة
‏ووحده يضمني
‏يربت فوق كتفي النحيل
‏يعيد ترتيب الخصل )

ويستمد المجاز نفسه من التشبيه بـ (ربما ) التي تمتد من المقطع الثاني بعد افتراضها مرة في مفتتحه

( وربما يكون لي آخر ثوب أرتديه
وربما تمسني مربعاته ومثلثاته
بطعنة ناعمة
فأنزف وحدي مثل حقل )

ثم مرة أخرى:

( من الورد
‏أرتق جرحي
‏بقطعة من الركام
‏وقد أنحي جانبا
‏غلالة من الغمام
‏وأنزف أمطاراً مؤجلة )

ويظل التشبيه ممتدا عبر المقطع الثاني ليلحق أثره بالمقطع الثالث دون الحاجة للأداة:

( من الشتاءات العديدة المنحطة
وربما يكون لي أخر ثوب أرتديه
بدني أظنني عرفتها
فإذ بها مجرد ثوب
أدور به من حول نفسي مرة
أو مرتين )

وفي (عاصفة في فنجان ) تعود القصيدة الى الحومان حول الفقد فتجسده في لحظة وداع قاسية بين رجل وامرأة، وتعتمل بالمشاعر الانثوية المصاحبة، وبما يمثله الرجل في المتخيل حين يصبغه الحب، فيبدو أكبر وأجمل وأذكى وأحكم، عندها تصبح لحظة الفقد مساوية للضياع التام والحزن المتمكن الذي يلف أقدامه كالاخطبوط حول الروح، تقول القصيدة:

( ومعجزات للسماء كثيرة
‏قد اختصرت العمر
‏في ورق الورد
‏ورائحة الفل
‏في تلك الياسمينة
‏وأقسمت
‏بكل أريج يتقطر
‏في حضنها
‏أن تشدك
‏هذا الصباح )

تتصاعد التجربة فتصبح الروع في منطقة وسيطة بين اليأس والرجاء، وتتمهد للخروج من جحيم التجربة، أليس الحب كما يقول جلال الدين الرومي (الحب عذاب، الحب يقتل)

( أكل هذا الورد لك يا حبي
وكل هذا الشوك لي
تلك الجراح؟
وكالفرائس حين تشتهي
صيادها
نام على سيقانها
جرح كدرب لا تراه )

وحين يصير الفقد يقينا صراحا:

( ما نهضت إلا على سحيق هاوية
أكل هذه الظباء والمها
لك
ياحبي؟ )

تعتمد القصيدة نهجا قائما على التتالي بمعطى درامي في الأساس الا انه يعطي التجربة امكانيتها وتماسكها.

وفي (مغامرة ) وهي قصيدة تبدأ بمقطع نثري قصير:

( هديل صوتك
‏ورعشة كفك
‏بلحظة السلام ما توهج بالعينين من صمت
‏تهدج الشفتين بالكرز
‏على شفا الكلمات والسؤال والغزل
‏حنين ذراعيك لميلاد فصول من جمال )

شيئا فشيئا ندرك أن العلأقة بين الشاعر والاشياء (مغامرة ) ليست علاقة ثبات بل علاقة تفاعل، فمن هذا الخوف الذي يتلبسها ينطرح خوف أكبر، يتتالى:

( وهذه اليمامة التي ولدت لتوها
‏وريشها قد تألق
‏بالدمع والندى )

وفي المقطع الثاني تحيلنا الى حالة من الحزن الوجودي الدفين من مرور الوقت دون أن نبلغ المعرفة، بل والتأكد من مروره دون أن نفعل

( وثغرها وقد تهيأ للقبل
وقدوم هذه الوسامة كلها
بستان تينك المشوك
وثورة الشفة
على خضار ذقنك زانها)

(من البستان ) عنوان أم سؤال، هو كلاهما بالنسبة للقصيدة التي تنهي بها الديوان، فالمبدع حين يصيبه ما يعرف في السيكولوجيا (writer block) او التوقف عن الكتابة يفعل المستحيل في سبيل الدفاع عن موهبته، لكنها هنا التجربة الشعرية نفسها تتساءل (من البستان ؟

أنسيت ما وشوشتها سراً؟ ”

وتصعد بالتساؤل الذي هو مناط البناء

(أبكى على بحر على نهر
بمعجزة هنا
في كوة بالقلب
كانا يلتقيان )

لكنها في الظلمة الحالة بالسؤال تكتشف الشعر:

( ها أنت يا حبيبي كتاربخ من الخزلان
‏وهذه الصخور صماء
‏باتت تحدثني.. تغني )

وما الشعر؟ أهو الشعلة المقدسة المختلسة، الجذوة التي تضيء بصيصا في روع الشاعر حين يدين له القلم، وهي أيضا ذات النار التى تؤلم حين تراوغنا التجربة

خاتمة:

في هذه السياحة اللغوية والجغرافية والمكانية والإحاسيس الراقية والرقيقة والعميقة المفردة وطازجة اللغة، بهذا الديوان(مكتوب بماء الورد) للشاعرة الرائعة والمبدعة المتفردة دكتورة عزة بدر الديوان الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة ، وعند نهايتها من هذا الديوان أجد أن قصائدها متنوعة مستفيدة من المعطى الشعري على امتداد حركة الشعر الحديث منذ نهاية السبعينات وحتى وقتنا هذا، لكن بقدر الاستفادة بقدر الخصوصية، بحيث يمثل الديوان وشاعرته الرقيقة اضافة خاصة، لعل قراءتي تكون قد أضاءت بعض جوانبها، وتحتاج شاعرتنا إلى عدة دراسات أخرى حول شعرها الراقي الرقيق الجميل اللغة والمعنى والتأثير والأثر .

‏** حسن غريب
‏عضو اتحاد كتاب مصر

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟

التعليقات على د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟ مغلقة

شيخ الأزهر ينعي الدكتور محمد الأنور أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين

التعليقات على شيخ الأزهر ينعي الدكتور محمد الأنور أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين مغلقة

دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات

التعليقات على دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات مغلقة

وزير الثقافة فى نعيها للفنان محمد صبرى: علامة بارزة وأعماله جزء من كنوز الإبداع

التعليقات على وزير الثقافة فى نعيها للفنان محمد صبرى: علامة بارزة وأعماله جزء من كنوز الإبداع مغلقة

فوزية مهران ..ترانيم التوحيد ولغة القرآن ..عندما تكون الكتابة صلاة

التعليقات على فوزية مهران ..ترانيم التوحيد ولغة القرآن ..عندما تكون الكتابة صلاة مغلقة

حسن غريب يكتب: أهم الملامح الفنية والجمالية في ديوان (بدون تصريح ) للشاعرة إيمان معاذ

التعليقات على حسن غريب يكتب: أهم الملامح الفنية والجمالية في ديوان (بدون تصريح ) للشاعرة إيمان معاذ مغلقة

بحضورة تلامذتهم .. قراءة في أعمال وتأثير رواد أعلام الفكر التربوي بالأعلى للثقافة

التعليقات على بحضورة تلامذتهم .. قراءة في أعمال وتأثير رواد أعلام الفكر التربوي بالأعلى للثقافة مغلقة

بينهم امرأة واحدة.. أهم 10 كتاب فى الأدب الصينى الحديث

التعليقات على بينهم امرأة واحدة.. أهم 10 كتاب فى الأدب الصينى الحديث مغلقة

د.رضا شحاتة يكتب الرسالة (8): سعد الخادم .. والمقاومة للمستعمر الجمالى الجديد

التعليقات على د.رضا شحاتة يكتب الرسالة (8): سعد الخادم .. والمقاومة للمستعمر الجمالى الجديد مغلقة

د. محمد أبو الفضل بدران يكتب: الحلاج المفترِي والمفتري عليه

التعليقات على د. محمد أبو الفضل بدران يكتب: الحلاج المفترِي والمفتري عليه مغلقة

الرسالة (3) : د. رضا شحاتة يكتب: المرئي واللامرئي .. فى بيت سعد الخادم .

التعليقات على الرسالة (3) : د. رضا شحاتة يكتب: المرئي واللامرئي .. فى بيت سعد الخادم . مغلقة

وفاة صاحب (قلم رصاص) .. حمدى قنديل الإعلامى الذى أطلق برامج النقد السياسي

التعليقات على وفاة صاحب (قلم رصاص) .. حمدى قنديل الإعلامى الذى أطلق برامج النقد السياسي مغلقة

Create Account



Log In Your Account