الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة” للدكتور محمود الضبع

الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة”  للدكتور محمود الضبع

الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة” للدكتور محمود الضبع

التعليقات على الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة” للدكتور محمود الضبع مغلقة

تطرح الشعرية العربية المعاصرة تساؤلاتها، واتجاهاتها التجريبية، وتؤسس لوعيها غير منشغلة بالقطيعة مع الماضي، أو الانفصال عن الحاضر، وإنما بالشعر ذاته، وإن كان التلقي عاملا حاسما في تحديد ملامح هذه الشعرية، فالجمالي مثلا لم يعد يحتكم إلى قوانين وأسس سابقة على الشعراء أن يحاكوها، كما كان مع الشعرية الكلاسيكية، وإنما غدا الجمالي نتاجا مشتركا بين المبدع والمتلقي، والأبنية اللغوية في تعالقها، وإنتاج الصورة، والإيقاع النغمي، والموضوع الشعري، وغيرها من العناصر التي تشكل الشعرية المعاصرة، والتي لايمكن بحال دراستها بعيدا عن التلقي والذوق الجمالي العام.
ومن ثم فليس الشكل هو ما يجب أن نقف أمامه؟ ولكنها القصيدة، عمودية كانت أم تفعيلية أم منتمية إلى شكل قصيدة النثر، أو ما يمكن أن يطرحه مستقبل الإبداع الشعري العربي من تجريب وتطور في أشكال الشعر التي لانملك الحكم عليها بالتوقف عند حدود ما نعرف.
من هنا تأتي هذه الدراسة مهمومة بشعرية الشعر، وأبنية القصيدة، وتحولات الشعرية العربية المعاصرة مهما اختلفت أشكالها التي تقدم من خلالها.
فما الذي تبقى من الشعر لنحكم عليه بالشعرية عبر هذه القرون الطويلة، لقد طرح الشعر في تحولاته أشكالا عدة وبقي شعرا، طرح القافية الموحدة واعتمد على القوافي المتعددة في شكل الموشحات ثم الشعر المرسل – على سبيل المثال – وبقي شعرا، ومزج بين أبحر شعرية من دوائر عروضية من المفترض تبعا لقوانين الخليل ألا تمتزج، وبقي شعرا، وهشم في بنية التفاعيل، وبقي شعرا، وتحول إلى قصيدة النثر وبقي شعرا.
إن هذه التحولات تعني من أقرب الطرق أن الشكل (1) ليس هو المحك والمعيار، وإنما الشعر يتقوم بغير الشكل، وسؤالنا حول الشعرية المعاصرة التي تتجاور فيها الأشكال على نحو يسمح لها بأن تكشف عن ذاتها، وليس من الوعي الثقافي محاولة رفض أحدها على حساب الآخر، وإنما الأجدى هو البحث في آلياتها وتشكلاتها من الداخل، أي استقراء المنجز الشعري العربي استقراء كليا وفي سياق متصل وليس في حلقات منفصلة منتمية إلى مراحل تعسفية لتسوير أشكال الشعر والفصل بينها، وهو ما بدأته الثقافة العربية تراثيا في دراستها للنص من حيث هو نص، واستيلاد النقد من رحم النصوص، واستشراف تحولات النص مما تخبئه النصوص على المتلقي العادي، وهنا يكون النقد مجازفة لقراءة النصوص سياقيا وتساوقيا واستبطانها لصالح الشعرية العربية.
وعبر التجريب على مئات من النصوص والقصائد التي تنتمي إلى عصور تاريخية متنوعة، وأشكال شعرية مرت بها القصيدة العربية في تحولاتها، يمكن رصد الملامح الفارقة التي تمثل ماهية الشعر وتخرج ما ليس شعرا من هذا السياق، وهي ملامح تصدق على كل أشكال الشعر العمودي منها والتفعيلي والنثري، وتتمثل في :
بناء العلاقات اللغوية على نحو يخرج بها من سياق الإخبار إلى سياق الشعرية، وهو ما يقتضي الاعتماد على المجاز بوصفه البنية الكبرى في المنجز الثقافي العربي والاستعارة بمعناها الأوسع.
ولكن العلاقات اللغوية المعتمدة على المجاز والاستعارة بمفردها لاتقيم الشعر، وإنما لابد من إضافة ما يمكن تسميته بهيمنة غياب المرجع بمفهوم العوالم الممكنة، أي بناء هذه العلاقات اللغوية في إطار الاحتكام إلى عالمها هي الذي تصنعه من خلال تعالقها، وليس احتكاما إلى المنطق الواقعي.
ثم يضاف إليها الإيقاع النغمي، وهو إيقاع كيفي داخلي يختلف عن الإيقاع الكمي بمفهومه العروضي.
وإلى هذه جميعا يضاف التلقي بوصفه العنصر الحاكم والحاسم في تحديد النوع الشعري، بما اتفق عليه الوعي الجمعي لأصحاب اللغة من جماليات أقرتها الذائقة، وبما يفعله الشاعر من محاولة للإضافة لهذا الميراث العريض من جماليات التلقي، ذلك لأنها جماليات متغيرة بتغير الزمان والمكان والبيئة.
التلقي والذائقة النقدية العربية.
هل يعد التلقي عاملا حاسما في تحديد السمات الجمالية للأدب؟
بمعنى : هل هناك اتفاقات جمالية من قبل ذائقة التلقي تتدخل في الحكم على النوع الأدبي وتصنيفه وما يدخل في إطار جمالياته مما تنتفي عنه صفة الجمالية؟
في تراثنا العربي ما يكشف عن سياقات التلقي واتفاقاته على تحديد النوع الأدبي، فعلى سبيل المثال أحكام العرب القدامى عن شعرية الشعر وأشعر العرب، ومنه :
– ما كان بين النابغة وحسان والخنساء والأعشى بسوق عكاظ، حين حكم النابغة للأعشى، وفضله على الخنساء رغم قولها (قذى بعينك أم بالعين عوار)، فنقض حسان مستشهدا بقوله (لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى)، فقال له النابغة : إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك(2).
– ومنه الإقواء في زعم أبي عمرو عن النابغة (زَعم البوارح أن رحلتنا غداً) (3).
– ومنه رواية حسان بن ثابت مع ابنه عبدالله عندما لَسعه طائر (قال ابني الشعر ورب الكعبة) (4).
– ومنه تعريف الشعر على أنه الموزون المقفى ( قدامة فى القرن الثالث الهجرى), وابن رشيق القيروانى في ربطه بالصور والأخيلة , والعاطفة والانفعال النفسى, وربطه بين الشعر والوظيفة والمعنى , وإضافة القصد والنية إلى مفهوم الشعر: ” الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء وهى اللفظ والوزن والمعنى والقافية “(5).
وفي نقدنا العربي القديم علل القدماء استجابة المتلقي، وتذوقه الجمالي، والاحتمالات وراء تأثير نص ما في المتلقي، وعدم تأثير نص آخر معادل له في الجودة إذا اكتملت شروط الصياغة والحسن في كليهما؟ فقال الآمدي: “إن من الأشياء أشياءَ تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة “(6). وقال القاضي الجرجاني: “وأنت ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، تستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها فى انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلم بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم، وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت، لهذه المزية سبباً”(7).‏
وقد استمدت الشعرية المعاصرة بعض آلياتها عبر التواصل مع قديمتها بأن توجهت نحو التحرك الداخلى فى الخطاب اللغوى، للكشف عن ظواهره ومكوناته المتراكبة، والكشف عن العنصر المهيمن من خلال العلاقات المتبادلة بين هذه المكونات، وسابقا في التراث العربي كان عبد القاهر الجرجانى أقرب ما يكون إلى هذه الرؤية. حيث ربط – فى شعريته – بين اللفظ والمعنى من خلال نظريته فى النظم: “بان بذلك أن الأمر على ما قلناه، من أن اللفظ تبع للمعنى فى النظم، وأن الكلم تترتب فى النطق بسبب ترتب معانيها فى النفس”(8)… والربط بين اللفظ والمعنى يتواصل مع شعرية الحداثة التى تعتد بالتعبير والتوصيل كأداة منهجية للكشف عن الشعرية، وتركز على درجة تعالق التعبير بالمحتوى، وعلى التوصيل الجمالى قبل ذلك.
وهكذا فقد تشكلت الشعرية العربية الحديثة على المستوى النقدى من جهتين، أولاهما التواصل مع التراث العربي في مقولاته المنتخبة، وثانيتهما من خلال استكناه النصوص الشعرية التى سعت لإحداث وعى مغاير نسبيا عما كانت عليه حركة الشعر من قبل، ونعنى بذلك قصيدة التفعيلة (الشعر الحر)، فمع ظهور هذا النوع من الشعر، بدأت معايير الشعرية فى الاختلاف على المستويين الانتاجى والاستهلاكى (التلقى)، وهو ما يعنى – من وجهة نظرنا – أن الشعرية فعل متغير بتغير الحالة الإبداعية، أو الحركة الشعرية بعامة، فمن منظور التلقي تختلف معايير الشعرية التى كانت سائدة مع الشعر العمودى– وإن لم يكن كلية – عن معايير الشعرية التى سادت مع الشعر الحر، ومن ثم فإنها حتما ستختلف بفعل التلقي مع معايير الشعرية لقصيدة النثر، وإلا فما الذى يتبقى الآن من معايير الشعرية النموذجية المتمثلة فى القصيدة العمودية وحد الشعر بالوزن والقافية، ماذا يتبقى منها فى قصيدة النثر ليحكم عليها بأنها شعر؟
إنه وإن اختلفت وجهات النظر حول معايير الشعرية فهو نهايته يعنى أن ملامحها قد تختلف من سيادة حركة ما إلى سيادة أخرى، ومن ثم فإن كل حركة جديدة تأتى بمنطقها الشعرى إن قربا أو بعدا عن المفهوم السابق لها، وإن كان فى الغالب الأعم البعد أكثر تحققا من القرب.
والسؤال :
– ما ملامح تحولات هذه الشعرية؟
– وما سمات الشعرية المعاصرة في تواصلها وانقطاعها؟
– وإلى أي مدى كان التلقي عاملا حاسما في تحديد ماهيتها وسماتها؟
إن قراءة النص تتعدد بتعدد قرائه، وتتعدد التأويلات بتعدد حالات التلقي، وحتى المعرفة الجديدة التي يمكن أن يحملها النص الأدبي، هي معرفة يتم تأويلها في إطار التلقي وإمكاناته وأبعاده الثقافية، وهو ما يؤكد عليه كثيرون من نقاد الحداثة على اختلاف توجهاتهم، فيرى عبدالرحمن القعود(9) أن شعر الحداثة يستدعي بالضرورة القراءة التأويلية لما فيه من غموض وإبهام، قياسا إلى الشعر العربي القديم الذي كانت تناسبه أساليب الشرح، وهذه القراءة التأويلية ترتبط بالتلقي على نحو كبير بل تمارس فيه الدور الفاعل والمؤثر إلى الدرجة التي نتصور بها “أننا أمام نظرية للتأويل لا نظرية للتلقي”(10)، ويرصد القعود لآليات التأويل عبر إعادة إنتاج الدلالة وتعددها، وكفاءة المؤول وما تطرحه من أفق توقعات، والقراءة التفاعلية التي تولي أهمية للقارئ.
ويتفق حسين خمري مع غريماس وتودوروف على أن قراءة النص “بناء جديدا – إعادة بناء Reconstruction- له تراكيبه ودلالاته الخاصة في محاولة لتقديم المعنى في صيغ جديدة، في هذا المنظور يصير مفهوم إعادة بناء النص إعادة تركيب للموضوع وفق ما يتصوره أو يتخيله المحلّل لدلالة النص، إن هذا التحليل بعد أن يتخذ شكله النهائي يتحوّل هو الآخر إلى نصّ يطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة ويطالب بعدد من القراءات” (11)، ويعود السر في تعدد هذه القراءات إلى تكون النص الأدبي من مجموعة من العلاقات المتشابكة، وعلى قدر فك أنواع هذه العلاقات، على قدر تعدد القراءات(12).
ويؤكد محمد المبارك على اهتمام العرب والنقد العربي القديم بالمتلقي “وبلغت العناية أوجها في عصور ازدهار النقد.. وبلغت هذه العناية حدا يدفعنا إلى القول إن النقد العربي وضع المتلقي في منزلة مهمة من منازل الأدب وقصده بخطابه قصدا وحث الشعراء على أن يكون شعرهم متوجها إليه”(13).
وعلى تعدد حالات القراءة وأنماط القراء فإنه يمكن تصنيفهم إلى نمطين بالاستعارة من منجز جرامشي في الثقافة :
– الأول هو نمط القارئ الوظيفي، الذي يتحرك في النص بمنطق الكشف عن وظائف العوامل اللغوية، والبحث عن المعاني القريبة فيه، وتطبيق معطيات نظرية نقدية أو مدخل ما تطبيقا حرفيا عليه.
– والثاني هو نمط القارئ العضوي، الذي يتدخل في النص لإعادة إنتاجه وتكييفه مع وعيه، والتقاط إشاراته الخفية المؤسسه، وبناء نسق تدلالي عام، أو ما يمكن تسميته بالنص الموازي، أو النص المقابل، أو النص المضاد، وذلك كله تبعا لأنماط ثقافة المتلقي وقدراته الإبداعية وإمكاناته التأويلية.
ولننظر إلى نصين متجايلين اتخذ كل منهما الشكل الذي يروق له، وتحققت في كليهما مفاهيم الشعرية، وتشاكلا كلاهما في التعبير عن الوجع والقلق الإنساني :
نص بعنوان “مقدمة لوجع قديم ” من ديوان “نشيد لم يكتمل ” للشاعر توفيق أحمد(14)، ونص بعنوان “وسواس الشعر ” من ديوان ” امرأة من خزف الروح ” للشاعرة بهيجة إدلبي(15).
يقول توفيق أحمد في مفتتح قصيدته(16):
ضجر وأسئلة تلاحقني
عتب على وقتي مضى
لمرافئ المجهول يسبقني
وتلك قصائدي في الصدر أخزنها
لطول الانتظار توجعت
يا ليل قل لي : كيف أعلنها؟
وتقول بهيجة إدلبي في مفتتح قصيدتها(17) :
أغيب في الحرف حين السر يتبعه
سر وحرف سعـى فيه تضرعه
وأستعيــر من الرؤيا نوافذها
فيستوي في شغاف النور مطلعه
السؤال أولا : إلى أي مدى يمكن أن يتواصل المتلقي مع النصين على الرغم من انتمائهما إلى شكلين مختلفين هما التفعيلي والعمودي؟
هل في الإمكان تفضيل أحدهما على الآخر؟ ومن المتحكم في التفضيل أساسا، أليست ذائقة التلقي في انتمائها إلى ما درجت عليه أو طربت له بالمفهوم القديم؟
ولكن لم التفضيل وكلاهما له بهجته في النفس بشعريته وليس بشكله، فنحن لانحتفظ من القصيدة بثوبها الخارجي، ولكنا نحتفظ بما أوجدته فينا أو استثارته أو استنبتته من دلالات وعبارات وصور، فالقصيدة بعد أن تنتهي لاتختزل في ذهن المتلقي إلى فكرة، ولكنها تختزل إلى مضمون، أو صور بالمفهوم الشعري.
كلا النصين صنع فضاءه بالاتكاء على مرجعية التراث العربي اتكاء خفيا بالإيحاء لابالعبارة، حيث يتكئ نص توفيق أحمد على الميراث الإنساني المتمثل في القلب ومكنونه، وما يستدعيه من تراث الشعر العربي عن الحب والشوق والفراق والهجر والحزن والأسى.
ويتكئ نص بهيجة إدلبي على خلفيات معرفية تفوح عبر القصيدة ولاتنكشف، تتمثل في المرجعية الصوفية بتراثها وعبقها ( عبر روح التصوف لارموزه )، ومرجعية أخرى هي عينية ابن زريق البغدادي في قصيدته الشهيرة ” لاتعذليه فإن العذل يولعه “، والتي يتجلى حضورها من خلال قافيته التي اعتمدتها الشاعرة في نصها الجديد.
تستكمل بهيجة إدلبي قائلة :
وأمسك الريح من صحراء رحلتها
فتفرد السر في روحي وتمرعــه
وأشكل النهر في أحلام أغنيــة
وأفرق البحر في وجدي وأجمعـه
فينهض الشعر من أمداء خافيتـي
رملا أشكله بوحــا وأبدعــه
من غامض ينجلي من حيرة نزلت
أسماؤه فسرى فينـا تلوعـــه
ويستكمل توفيق أحمد، فيقول :
هذي القصائد
والأسى المدفون خلف حروفها
وبراءة الأزهار فيها
لؤلؤ لم يلق فرصته
ليعلن للفضاء بياضه
ياليل تلك هي الجهالة
تنبت الفوضى على أطراف ظلمتها
فينسحب الشعاع إلى براءته
ويلتحف المدار.
الشاعرة بهيجة تستطيل لحظة ما قبل المتعة وصولا إلى القصيدة، والشاعر توفيق أحمد يستدير حول القصيدة سعيا لاختراق الأسى كالفراشة التي تحوم حول النور ولكنها تعرف مصيرها تماما، تلك هي الحالة التي تتلبس الشاعرعندما يكتب.
يقول الشاعر توفيق أحمد في مقطع من مقاطع القصيدة :
ارفعوا قلقي
إلى جبل من الألق
لأفتح كوة في الغيم
تستعصي على الأفق
أظل أدور في فلك أضاع مساره
كل الجهات تدور في فلكي
مساري لامسار له
ولي جنسية الأشجار
تكتبها عصافير المطر
والشاعرة بهيجة تقول :
للشعـر هسهسة للروح نسمعهـا
تطفو على دمنــا نبضـا فنسمعه
كأنما شجــر يسعى إلى شجــر
كأنما أفــق والريــح ترضعـه
نصفو فيقلقنا نشقــى فيسعدنـا
نغفـــو فيسلبنا منـا توجعـه
فيه سرى دمعنا والدمـع منه سرى
نبكي تكفكفنا في الليـل أدمعــه
مذ كان كان الهوى أسطورة حملت
كأسا أحل بنا سهـدا تجرعـــه
الشاعر توفيق أحمد يستجير من قلقه، والشاعرة بهيجة لم تزل بعد بحس الأنثي تستجدى، وكلاهما يعتلي فوق الطبيعة والأشجار وتحركه الرياح في مدار القصيدة، ويستمران كل في مسار قصيدته، ونستمر معهما على أحسن ما يكون من حالات الوعي الجمالي.
والسؤال : ما قيمة الشكل هنا أمام القصيدة، ألم تستطع كلا القصيدتين أن تخلق جمالياتها في سياق حداثتنا نحن وأفق توجهاتنا الجمالية، لم يعد أحد منهما إلى الصور القديمة أو الرموز العربية التراثية ليستعيرها، ولكن صنع كل منهما صوره التي تتزامن مع الآني والمعيش بالفعل، وتلك في ذاتها حداثة.
لم تعجز القصيدة التي اتخذت شكل الموزون المقفى عن بناء صورها في إطار آليات الشعرية المعاصرة من مفارقة وانحراف دلالي، وتوسيع لبنية المجاز، وغيرها من آليات.
وكذلك لم تعجز القصيدة التي اعتمدت السطر الشعري والبناء التفعيلي في أن تخلق فضاءها الجمالي بالاعتماد على المجاز ورسم الصورة والبناء اللغوي المعتمد على كسر أفق التوقع في علاقاته وما ينتج عنها.
وكلاهما كانت له سماته اللغوية التي ترتبط على نحو ما بالتلقي في تحديد سماتها الجمالية.
 اللغة الشعرية:
اللغة الشعرية لغة مجازية بطبيعتها، ويكون المجاز فيها هو الناتج عن تجاور الدلالات وتعالقها لإنتاج تدلال جديد ( بمفهوم النَّظْم كما تحدث عنه عبدالقاهر الجرجاني)، حيث تنتقل اللغة في وظيفتها من مجرد الإخبار إلى الوظيفة الشعرية، تلك الوظيفة التي تتحقق في الشعر باعتمادها على الاستعارة أساسا، فى مقابل النثر الذى يعتمد على الكناية أو المجاز المرسل، حيث لا يتم الانتقال من شئ إلى شئ شبيه به كما هو الحال فى النثر، وإنما يتم الانتقال من شئ إلى شئ آخر مجاور، وكما يرى ياكبسون :” الشاعرية (الشعرية) هى مجرد مكون من بنية مركبة، إلا أنها مكون يحول بالضرورة العناصر الأخرى ويحدد معها سلوك المجموع… إن الشاعرية تتجلى فى كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة، وليست مجرد بديل عن الشئ المسمى، ولا كانبثاق للانفعال، وتتجلى فى كون الكلمات وتركيبها ودلالاتها، وشكلها الخارجى والداخلى، ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة”(18).
والوظيفة الشعرية بهذا الشكل تنظم العمل الشعرى، وتحكمه، دون أن تكون بالضرورة بارزة، ودون أن تسترعى الانتباه “فالأثر الشعرى لا يهيمن ضمن مجموعة القيم الاجتماعية، ولا تكون لها الحظوة على باقى القيم، ولكنه لا يكون أقل من المنظم الأساسى للأيديولوجية الموجِّه دوما نحو غايته”(19).
ويرى محمد المبارك أن إمكانية رصد تغيرات الشعر العربي يمكن التماسها عبر دراسة تطورات لغة الشعر قياسا إلى اللغة العادية ” فالشعر عبارة عن لغة طوعت، وانحرف بها عن مسارها المعهود، ولم يكن هذا التطويع والانحراف ليقطع اللغة الشعرية عن الأصل، بل جعل لها تميزاً، فأصبحت اللغة الشعرية نوعاً في اللغة، وتغير النسق اللغوي فأصبح للشعر شكله الخاص المختلف عن طبيعة اللغة العربية وغاياتها، هذا الاتصال والافتراق بين نمطين في اللغة.. الاستخدام الشعري والاستخدام العادي هو الذي هيأ أفقاً من المقارنات لقياس مديات التطور عبر الحقب “(20).
إن النص الشعري هو في نهايته علاقات لغوية منتظمة على نحو ما، وهذه العلاقات اللغوية على مستوى التلقي تحتاج دوما إلى مرجع يفسر مدلولها، وتكون المرجعية إلى القاموس أو المعجم اللغوي السائد أولا ( بمفهوم التواضع الذي استقر عليه أصحاب اللغة )، ولكن عندما يصطدم التلقي بعلاقات لغوية يغيب فيها المرجع نتيجة لاستخدام المجاز والاستعارة، فهنا يحدث الانحراف الدلالي، حيث ينفتح الباب أمام التأويل والاحتمالات التي لاتنتهي، وهو ما أشار إليه المتنبي في قوله :
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
ولكن :
هل كل مجاز(21) يتحقق فيه الشعر؟
بمعنى ما حدود علاقة المجاز والاستعارة بالتلقي؟
إن المجاز يعتمد في الأساس على التلقي بوصفه عاملا حاسما في تحديد اشتغال المجاز من عدمه، وكما أن كل شلال إلى زوال، كذلك فإن كل استعارة (مجاز) إلى زوال، فما تتواضع عليه ذائقة التلقي بأنه مجاز يخضع لمفهوم الزمان والمكان، إذ كثير من المجازات تفقد مجازيتها بفعل الاستخدام، وتنتقل في وعي المتلقي من المجاز إلى الحقيقة. كذلك يتدخل عامل المكان في تحديد اشتغال المجاز من عدمه، فما تتواضع عليه ذائقة التلقي في بيئة ما على أنه مجاز، تراه بيئة أخرى حقيقة، فمقولة مثل : أحتمي ببيتي الثلجي، هي مجاز في البيئات الحارة، ولكنها حقيقة في البيئات الثلجية.
وقليلة هي المجازات التي استطاعت الحفاظ على مجازيتها عبر الزمان وعبر المكان (البيئات)، وهي التي تصنع شعريتها في النثر والشعر على السواء، ومنه استخدام القرآن الكريم للمجاز والصور المجازية في بعض نماذج الشعر العربي القديم.
غير أننا في القصيدة لايمكن الحكم على شعريتها لمجرد توفر المجاز أو الاستعارة فيها من عدمه، إذ إن وجود الاستعارة في ذاته لايعني تحقق الشعرية، ولكن ما يحققها هو اشتغال هذه الاستعارة، فقد تكون موجودة بالفعل ولكنها غير مشتغلة (غير عاملة ) بسبب استهلاكها أو اختلاف بيئتها المكانية، ومن ثم فإننا لانحكم مثل “جان كوين ” للتفريق بين الشعر واللاشعر بوجود الاستعارة والمجاز والكناية من عدمه، وإنما نحكم على عملها، هل هي مشتغلة أم غير مشتغلة، وهو ما يتحقق عندما تتعدد تأويلاتها بتعدد المتلقين، وبالتالي تعدد التأويلات التي يمكن أن تطرحها العلاقات اللغوية أو تبنيها ولكن على نحو يختلف عما تطرحه في البناء غير الشعري.
إن العلاقة اللغوية في الشعر تحتاج دوما إلى مرجع ليفسر مدلولها، وتتحدد هذه المرجعية من قبل المعجم أو الاستخدامات اللغوية المتواضع عليها من قبل أصحاب اللغة (الذوات/ المتلقين )، وعندما يستقبل المتلقي نصا ما فإنه يحيل علاقاته اللغوية إلى هذه الاستخدامات المتفق عليها، وهنا يصطدم المتلقي في الشعر بغياب المرجع (الكيفي)، مما يدفعه إلى إحداث انحراف في تلقي هذه العلاقة اللغوية، وهنا أيضا يحدث التشويش المرجعي، وتبدأ نظرية الاحتمالات في ممارسة دورها على أوسع ما يكون، ثم شيئا فشيئا يضيق الإطار، فيقل أفق التوقعات، وإن كانت هذه التوقعات نفسها محكومة بإطار عام هو الثقافة التي كتب في إطارها النص.
وتكفي هنا مطالعة لعنواوين الدواوين الصادرة بعد عام 2000م، والتي اعتمدت بناء علاقة لغوية يهيمن عليها غياب المرجع(22)، ومنها :
أعشاش الأبد لأحمد حافظ، وخيل الحنان، ومناديل الليل لإبراهيم النمر، وحديقة الرغبة، وعطش البحر، وأوراق الجسد لرياض العبيد، وكلمات بلون الحب لإبراهيم الزيدي، وآخر الورثة من سلالة النخيل لباسم القاسم، وأعشاب سوداء في حديقة القلب لمحمود الجرادي، وأصابع الريح، ورائحة الظلال لندى السلامة، وامرأة من خزف الروح، ونهر الكلام يعبر من دمي لبهيجة المصري (سورية)، وموت مؤجل في حديقة لمحمد الحمامصي، وباب واحد ومنازل لأحمد الشهاوي، ومخيال الأمكنة لعاطف عبدالعزيز، وشريعة الأعزل لأحمد زرزور، ومساء يستريح على الطاولة، وقبل الليل بشارع لإيهاب خليفة (مصر )، وذاكرة الطير لجميلة الماجرى (تونس) وسيرة العشب، وجغرافيا الريح والأسئلة، ودفتر الأحوال، لزهير أبوشايب، ودوائر الطين، ونصفها ليلك، وشارع أو أقل، لمها العتوم (الأردن).
إن هذه العناوين، وعلى غرارها عناوين القصائد الداخلية، تعتمد على إقامة علاقة لغوية جديدة لم تكن موجودة من قبل، وعندما يستقبلها المتلقي فإنه يبحث أولا عن مرجعيتها فيما تواضع عليه أصحاب اللغة، ولكنه لايجد لها مرجعية فيسعى للبحث عنها في إطار ثقافته هو ووعيه.
وبشكل عام فإن غياب المرجع لايعني وجود صورة مجازية أو خيال ما، بل الأمر يتعلق في حقيقته بمأزقين :
الأول منهما : أن كثيرا من الصور الحقيقية علاقة لغوية لها مرجع حقيقي في بيئات ثقافية بعينها، ولكن هذه الصورة أو العلاقة اللغوية نفسها تتخذ غياب المرجع في ثقافات أخرى، فمثلا عندما يقيم شاعر علاقة لغوية ما، مثل ” أحتمي ببيتي الثلجي “، أو ” أستنشق عبق الثلوج كل يوم”، أو ” الثلج يحاصرني كل حين “، فإن هذه العلاقات اللغوية لمتلق يعيش في بلاد ثلجية هي علاقات حقيقية يتحقق فيها المرجع الحقيقي.
ولكن أن يستقبلها متلق يعيش في الصحراء أو البلاد الحارة سيستقبلها على أنها مجاز، أي ستتحول هي ذاتها إلى علاقات لغوية يهيمن عليها غياب المرجع. فعلى الرغم من كون العلاقات واحدة، إلا أن دلالاتها تختلف باختلاف مستويات التلقي.
أما المأزق الثاني فهو أن العلاقة اللغوية التي يهيمن عليها غياب المرجع، قد تكتسب بفعل الزمن حضورا للمرجع- وهو ما يحدث كثيرا -، فتنتقل من دائرة المجاز إلى الحقيقة، ويحدث هذا بسبب استقرار الاتفاق الجمالي عليها، بفعل المتلقين أصحاب اللغة، وهو ما يسهم بدوره أيضا في إحداث تعدد التأويلات للنص الواحد بتعدد المتلقين.
من هنا يمكن القول : إن وجود العلاقة اللغوية بدون وضع استقبال (تلقي) تقوم فيه الاستعارة والمجاز (هيمنة غياب المرجع ) باشتغالها في النص، لن يكون صحيحا، أي لايتحقق وجود العمل بها، ذلك لأنها لابد أن تكون فاعلة (مشتغلة في النص )، وإلا فإنها تنتقل من كونها أحد مكونات الشعرية الأساسية التي ينتفي الشعر بوجودها، إلى كونها عنصرا تكميليا من عناصر اللغة، تشبه المكملات التي تطرأ على الجملة الاسمية، أو الفعلية في النحو، والتي قد تحقق دورها على مستوى التبليغ، ولكنها أيضا ليست هي الجملة ذاتها.
إن ما نعنيه في الإجمال هو أن التلقي (الاستقبال ) يعد عاملا حاسما في تحديد حقل المجاز (الاستعارة) بمفهوم هيمنة غياب المرجع، ويحكم على هذه الاستعارة ليس حكما تواجديا أو عدميا، وإنما حكم اشتغالي، بمعنى : هل هي مشتغلة أم غير مشتغلة؟ هل يهيمن عليها غياب المرجع فيدخلها في إطار الشعرية، أم لها مرجعيتها الحقيقية؟، وذلك مع الوضع في الاعتبار أن غياب المرجع يقاس بالكيف لابالكم، وهو ما يؤكد أن المتلقي له الدور الفاعل في تحديد هوية هذه العلاقة اللغوية واشتغالها في النص، أي الحكم على ما هو شعري مما هو ليس بشعري تبعا لتحقق المرجع وغيابه، أي أن العلاقة اللغوية في ذاتها لاتكفي للحكم وإنما تحتاج إلى حكم المتلقي ليستقيم الحكم، وهو ما يؤكد سيادة جماليات في عصر ما، مما يشكل الذوق العام، وإلا فكيف يمكن الحكم على مرجعية علاقة لغوية مثل تلك التي وردت عند الشاعر أحمد حافظ (23)، من ديوانه أعشاش الأبد(24):
باغت الوقتَ نصلُ المساء
للحفيف صدى طعنة
بقعة من دم في قميص السماء.
ويقول في الديوان ذاته :
من كثرة ما أنَّ
نمت سوداء
على السقف عناقيد.
فالعلاقة اللغوية في المقطعين لايمكن إحالتها إلى مرجعية معجمية، أو مرجعية واقعية، وإنما إحالتها إلى منطق العوالم الممكنة(25) بتصوراته التي يقيمها على مستوى النص، أي أن هذه العلاقات لم تكن موجودة قبل أن يوجدها النص، فالتداخل بين المادي الحسي والمعنوي المتصور بين نصل المساء الذي يباغت الوقت، وبين الطعنة التي تحدث صدى، جميعها علاقات لايمكن استقبالها على مستوى التلقي في سياق المعرفة السابقة (بمفهوم الثقافة والخبرة ) ولكنها معرفة جديدة يوجدها النص، ويؤسس لها تأسيسا شعريا، والتلقي يقبلها تأويليا في إطار التوجيه الدلالي الذي يمكن إحالتها إليه، وهو تأويل قد يتعدد ليتوجه نحو السياسي، أو الاجتماعي، أو الجمالي، أو العاطفي، أو رصد التجربة الإنسانية بعامة، أو غيرها من الدلالات والتأويلات العديدة التي يمكن للتلقي أن يعتمدها في قراءة النص، وهو ما يعتمد عليه الشاعر أحمد حافظ في بناء قصائده عبر الديوان كله، والتي لاتكاد يخلو مقطع فيها من إحالة على مرجعية غير واقعية، وإنما هي مرجعية جمالية يوجدها النص ويؤسس في ضوئها جمالا لم يكن موجودا من قبل.
ويأتي نص جميلة الماجري(26) في ديوانها “ذاكرة الطير” ممتلئا بالفجوات الدلالية والمعرفة النصية التي لم تكن موجودة من قبل أن يولد النص، تقول في قصيدة بعنوان “بيت “(27):
بيت
على أرض الورق
رسمته في ليل الأرق
لكنها لاذت به
إذ لج بالروح القلق.
فالقصيدة على الرغم من أنها تبدأ ببناء نسق لغوي يحيل مرجعيات علاقاته إلى الواقع فيمن تعبر عن قلقها بالرسم، إلا أن القصيدة تنحرف بالدلالة لتخرج بها إلى إطار العالم الممكن عندما تعمد الشاعرة لكسر الألفة، وتعتمد بنية المفارقة بأن تلوذ إلى البيت عندما يهيمن القلق على روحها.
إن هذه السمة الشعرية (العلاقات اللغوية والبناء النصي ) تعد إحدى السمات الأساسية للشعرية المعاصرة في بنائها، وفي تلقيها، فالنص الشعري ينتج في سياق الاتفاقات الجمالية للتلقي، والبناء اللغوي يكتسب شعريته من عدمها عندما يتمكن من التحرك في إطار هذه الاتفاقات الجمالية، وهي اتفاقات ليست ثابتة على الدوام، وإنما تتغير بتغير الزمان والمكان كما سبق.
يقول الشاعر إبراهيم الزيدي(28) في قصيدة بعنوان “حلم ” من ديوان كلمات بلون الحب(29):
ها قد رأيتك مرة أخرى..!!
وسوف أراك ثانية..!!
فإن لم تأت :
أنت وسادة الأحلام.
فهذا النص حتى السطر الشعري الأخير يقيم علاقاته اللغوية في سياق المرجعية المنطقية التي تحتكم إلى الواقع وتستقيم معه، ومن ثم تظل مؤجلة الشعرية حتى يأتي الانحراف الدلالي في العلاقة اللغوية التي تنتهي بها القصيدة، حيث يتحول كل ما سبق لوسادة الأحلام، وهنا يبدأ التلقي في القيام بدوره في النص، حيث يبدأ العالم الممكن في التشكل بالعودة إلى الوراء مرة أخرى لمراجعة العلاقات اللغوية مرة أخرى، ولكن في ضوء الانحراف الذي أحدثته العلاقة الأخيرة، وهنا يبدأ نص جديد في الولادة، هو النص الذي يتدخل المتلقي في بنائه في ضوء المعطى الأخير الذي اختتم به النص.
 شعرية المفارقة:
تعد المفارقة هي البنية الأوسع والأكثر تحققا في الشعرية العربية المعاصرة، وبخاصة مع قصيدة النثر التي وسعت من شعرية المفارقة، وصارت المفارقة في ذاتها تجريبا شعريا، حتى غدت أحد ملامح الشعرية في قصيدة النثر، وذلك على اختلاف أشكالها كما تم رصدها، ومنها : المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف(30) والمفارقة الدرامية ومفارقة الحدث والمفارقة الرومانسية(31)،وغيرها من المفارقات النصية.
وتعد إحدى السمات الفارقة التى تميز التجريب فى قصيدة النثر أنه تجريب لا على مستوى اللغة , وليس على مستوى بناء الصورة فحسب , كما كان يحدث قبلا مع ممارسات الشعرية العربية عبر قرونها الطويلة, وإنما هو تجريب فى أسلوبية كتابة النص ( بنياته ودواله وأدواته ) , وفى موضوعاته , وما يمكن أن تحدثه من وعى مفارق , بما يمكن تسميته بصدمة التلقى، ويمكن رصد هذا التجريب من خلال:
– آلية اشتغال عقل الكاتب فى إبداعه للنص , وما يمكن أن يرتبط بذلك من بحث عن آليات جديدة لإنتاج النص.
– وكذلك يمكن رصده من خلال التلقى , الذى يكشف عن وعى مفارق للوعى الجمالى السائد.
ومعنى ذلك أن التجريب محفوف دوما بالمغايرة , مغايرة ذوق التلقي والذائقة السائدة، ولكنه عبر الإلحاح يسعى لتأصيل وجوده، وإحداث الوعي الجمالي للتلقي، ثم ما يلبث التجريب أن يسعى من جديد لكسر ألفة التلقي، وهكذا على الدوام .
ويمكن الزعم أنه لايخلو ديوان شعري معاصر من اعتماد على المفارقة في بناء نصوصه، بل في الإمكان الدخول إلى عوالم نصوص لدواوين بأكملها اعتمدت المفارقة بنية لها في كافة قصائدها، ومنها دواوين: عبد الكريم كاصد “وردة البيكاجي ” وجميلة الماجد “ذاكرة الطير “، ومؤمن سمير ” هواء جاف يجرح الملامح “, إذ تتجلى بنية المفارقة , بوصفها بنية أساسية اتكأت عليها نصوص الدواوين فى إنتاج تدلالها العام.
ففي ديوان “ذاكرة الطير” لاتخلو قصيدة من اعتماد بنية المفارقة إما عبر البناء النصي، أو عبر الختام، تقول في ختام بعض قصائدها :
لكنها أطفأت ضوءها في دمي
ومضت.
وتقول :
إنا لم نزل هشين
قبل الأربعين.
وعند الشاعر صقر عليشي(32) تنبني المفارقة عبر ديوانه “الغزال” على مستويين : الأول على مستوى موضوع الديوان الذي عاد به الشاعر إلى ما يطلق عليه الغزل في تاريخ الشعر العربي، غير أنه لايتعامل معه بمعطياته التراثية، وإنما يتعامل معه بوعي مفارق، هو وعي الإنسان المعاصر وما آلت إليه الحضارة البشرية.
أما المستوى الثاني للمفارقة فيعتمد على أبنية المقاطع في القصيدة، التي تأتي جميعها مختزلة ومكثفة، لايتجاوز فيها المقطع الصفحة في الأغلب، كما تتفق جميعها في أنها تنتهي ببنية المفارقة، حتى مع القصائد التي يعتمد فيها بنية التدوير، فتنتهي خاتمتها بما بدأت به، يقول(33):
تقول :
يحيرني الصمت عندك
من أي باب سأدخل
صمتك يترك لي وفرة
في السديم
فقلت :
أعندك شيء
وما فيه حرت.
النص يعتمد على المفارقة بين هو وهي، وبين حالتها وحالته، بين سؤالها وسؤاله، ناهيا عن المفارقة التي تنبني في عقل المتلقي عندما يقارن بين غزل اليوم وغزل الأمس في التراث العربي، حيث لم تعد المرأة هي الغائبة عن النص إلا بما يقدمه الشاعر عنها من وصف، ولم تعد حتى مجرد الحاضرة الصامتة، وإنما غدا السؤال هو المحرك للبناء، وهو المانح النص شعريته، وهو السؤال المتساوي فيه صوت المرأة مع صوت الرجل، فلم يعد الجسد فقط هو القضية كما كان في القديم، وإنما أضيفت إلى الجسد أبعاد الوعي الإنساني.
وعند الشاعر مؤمن سمير(34) ومنذ النص الأول ” دوام ” تتجلى هذه البنية – بنية المفارقة – لتكشف عن وعى بالتجريب , يقول(35) :
لا فكاك من التقزز
صدقنى
فأنت ستتخيل حالا
أن العقارب الثلاثة , تركب
فوق بعضها , بسوقية لا نهائية
وأن.. وأن..
لكن ما يحزن فى الأمر حقا
أنك ستموت بعد قليل…..
حقيقة بسيطة , لا يجهلها أحد , لكنها , وفى سياق بناء النص تأتى بوصفها صدمة تصنع مفارقة شعرية , ومفارقة ترتبط بعالم ما خارج النص , وتضع المتلقى على حافة السؤال المصيرى, سؤال النهاية والعدم والموت , إن المفارقة هنا تنتج من العالم المنبنى عبر النص (العالم الممكن ) بتعبير المناطقة , ذلك العالم الذى ليس موجودا خارج النص , ولكن أوجدته الكلمات.
وفى نص بعنوان “مشيئة” تتشكل المفارقة الشعرية من عدة مفارقات تأتى مفتتة عبر النص, ثم تنتهى بمفارقة أشمل يختتم بها النص , ففى المقطع الأول , يقول :
الأم تهرع إليه قبل النزول
ترقيه
إحساسها بأنه المسروق لا محالة.
وفى المقطع الثانى :
الأب من أسفل العدسات
ينظر إلى الجيب المطرز , ويتمتم
بدعاء مكتوم.
وفى المقطع الثالث :
كلهم لا يسمعون الهاجس
وهو يقض مضجعه كل ليلة , بكل قسوة.
وفى المقطع الرابع :
لكنه يخرج فى آخر العام , متخفيا , فيمر قرب الناصية
ظل البنت المضيئة
فيسرق
قلبه.
ثم تأتى المفارقة الأخيرة باعتبارها خاتمة , إذ فى ظل هذا الجو المشوب بالتوجس والقلق , والألم وانتظار الموت , يمر به ظل البنت المضيئة فيسرق قلبه.
إنه الانحراف الدلالى الذى يعمد الشاعر إليه لكسر الألفة المعتادة , ومن ثم الخروج من المعتاد إلى غير المعتاد، وهي المفارقة الأبدية التى تتشكل بين الموت والحياة , حيث يبنى النص فلسفته ويتبناها , ففى أعمق لحظات الموت تكمن لذة الحياة , وفى أعمق لحظات الحياة يكمن ألم الموت.
ومن هنا تعد أداة الاستدراك ” لكن ” تقنية أساسية فى بناء النصوص , إذ المفارقة هنا تنبنى من خلال الموقف والموقف المضاد.
وتتشكل آليات المفارقة فى نصوص الديوان من خلال :
– أدوات الاستدراك والاعتراض وبخاصة الأداة ” لكن ” وتحولاتها.
– وتتشكل أيضا من خلال بناء الموقف والموقف المضاد , والصورة والصورة المضادة.
يقول مؤمن سمير :
حين سرت وحيدا
فى هذا المساء الشتوى
اصطدمت بأربعة أشباح
كان كل منهم يسير وحيدا
فى هذا المساء الشتوى
لكننا أصبحنا رفاقا حقيقيين
بعد أن أسر كل منا
للمحلات المغلقة
بأنه حزين ووحيد
فى هذا المساء الشتوى .
فالأداة ” لكننا ” تفصل بين حالتين , الأولى لقاء الأشباح ووحدتهم فى المساء الشتوى , والثانية هى الموقف المفارق المتمثل فى الرفقة الحقيقية , وتكشف المفارقة عن بعد آخر خفى , هو الغربة والوحدة فى المدينة التى يسكنها الأشباح , وهو ما تكشف عنه دلالات ” المحلات المغلقة ” , إن المفارقة هنا تعبر عن رؤية الإنسان الشاعر بالمدينة , وما يكتنفها من أبعاد غير مرضى عنها بالطبع كتحول سكانها لأشباح. وهو ما يشكل أيضا حالة من المفارقة مع الغائب المضاد للمدينة (قرية كان أم أية عالم آخر يرتضيه الشاعر ويجد فيه الرفقة )..

 الموضوع والتلقي:
على الرغم من قلة الاهتمام بالموضوع على مستوى النقد العربي المعاصر، إلا أنه ظل يمثل خلفية للتعامل مع النص وفهم معطياته، فالموضوع هو الحامل لأية إشارات يعطيها النص، رغم ما عملت عليه شعرية الحداثة من خلخلة الموضوع وفتح آفاقه، وعدم حصره في أطر ضيقة مثلما كانت عليه الشعرية العمودية مثلا، وعلى نحو ما كرست له الحركات الرومانسية وما صاحبها من تنظير نقدي حول الوحدة العضوية والوحدة الموضوعية، غير أن الشعرية العربية في مرحلة جماعة الديوان نقلت موضوع الشعر إلى أفق جديدة على يد العقاد، وبخاصة في ديوانه “عابر سبيل “، والذي تبنى فيه اتجاها تجريبيا فتح الباب أمام الشعرية المعاصرة كما هي عليها الآن، حيث نظر إلى الشعر نظرة خاصة، عبر عنها قائلا : “الشعر ليس عليه بالضرورة أن يطرح القضايا المهمة، فالشعر ليس منطوقا لجملة “.
ولاخلاف على أن شعرية قصيدة النثر المعاصرة تعتمد مبدأ حاكما لموضوع الشعر، حيث ترى أن كل ما يمكن أن يقع تحت العين ويقبل التأمل فهو موضوع للشعر، ومن ثم اتجهت قصيدة النثر إلى التجريب في موضوع كتابة الشعر وبرزت في ذلك اتجاهات، منها(36) :
– استلهام التراثى وبعثه، بإعادة تأويله واكتشافه، ثم بعثه من جديد فى إيقاع جديد، ولغة تواصل جديدة، وشكل فنى جديد.
– الخبرة الجسدية، أو مفهوم الجسد منطلقا منه وإليه، معتمدا على اللغة المباشرة للجسد بوصفه شكلا للتجريب.
– خبرات الحياة الشخصية المباشرة (التفاصيل اليومية)، حيث الاهتمام بالتفاصيل اليومية الدقيقة، وتحويلها إلى موضوعة شعرية، تجسد مواقف الحياة أو مشاهدها التى يمارسها البشر كافة.
– الاعتماد على تيمة السحر، وإعادة خلقها فى تشكُّل يجسد لصراع الذات/ الأنا مع السلطة الشعبية المهيمنة، والمرتكزات التى يرى أنها ليست منتظمة ذلك الانتظام المعروف عنها.
– المفارقة، بوصفها الانحراف الدلالى الذى يعمد الشاعر إليه لكسر الألفة المعتادة , ومن ثم الخروج من المعتاد إلى غير المعتاد، ولها أنماط عديدة يأتي بعضها متمثلا على المستوى اللغوي، وبعضها على مستوى العلاقة بين السبب والمسبب، وبين المقدمات والنتائج.
– الوعي الإنساني والهم البشري بالاتجاهات الكبرى من حوله وبخاصة الأنماط الثقافية السائدة والأوضاع السياسية والاجتماعية، والتعبير عن ذلك جميعه.
فإلى الاتجاه الأول “استلهام التراثي وبعثه ” تنتمي كثير من الأعمال، منها “وردة البيكاجي” و “قفا نبك ” لعبدالكريم كاصد(37)، و”بازي النسوان ” و”إسكندر البرابرة ” لمحمد مظلوم، و”رحلة الفينيق ” و”امرأة من خزف الروح” لبهيجة إدلبي، و”آخر الورثة من سلالة النخيل” لباسم القاسم، و”بغداد” لإبراهيم الزيدي، و”ديوان النساء” لجميلة الماجري، وغيرها كثير من الأعمال التي اعتمدت التراثي موضوعا للديوان، طارحة عبره موضوع الحياة المعاصرة.
يحمل ديوان “قفا نبك “(38) الكثير منا وعنا في وقوفنا أمام تراثنا ونحن نجوب المدن شرقا وغربا شمالا وجنوبا، ودوما نبحث عن صورة الماضي التي تؤرقنا، عن التاريخ الذي تم تمريره لنا فتكونت أحلامنا منه، ولا ندرى بالفعل هل كان تاريخا كما عايشناه أم أنها خدعة أخرى من تاريخ الدماء، في الحالتين فإن الألم هو الميراث.. ذلك الألم هو ما يتبقى بعد الانتهاء من الديوان، يقول في قصيدة بعنوان “حكايات من الحمراء” إلى أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف في الأندلس، يقول :
يا أبا عبدالله
الطريق الذي قادني إليك
قادك إلى السفح
حيث السماء تجلس باكية
والقمران حولها يسهران
يا أبا عبدالله
أيها الصغير الذي لم تحمه الأدعية
ما الذي قادني إليك؟
فتقدمت في برنسي المغربي.
وقد هالني ما أرى
السماء جالسة
الملكان بينهما الطفل متشحا بالسواد
وامرأتان أطرقتا في البعيد…
أين نمضي بهذه التركة يا أبا عبدالله؟
ويقول في قصيدة بعنوان “الذئب” من الديوان نفسه :
أوه يا أبا العلاء
كم تشير إلى ذلك الذئب
وتقول :
“دعوه
ستهلكه صحبة الأغنام ”
وإلى هذا الاتجاه ينتمي ديوانا “بازي النسوان ” و”إسكندر البرابرة ” للشاعر العراقي محمد مظلوم(39)، حيث يمثلان سيرة ذاتية للثقافة العربية عبر وسيط إنساني أحيانا، وعبر النتاج الفكري والمنتج المادي (الفنون العربية على اختلافها) أحيانا أخرى، لذا ليست هناك نقطة بداية تتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، ولكن هناك تماوجات تعبر عن الحركات الثقافية التي تستعيد الماضي لتعيد إنتاجه، وهو المستوى الأعلى من الوعي بالنص في أبنيته المستترة لقصائد الديوان بأكمله (قراءة بانورامية ).
الديوانان يمثلان أحد مداخل التجريب في قصيدة النثر على مستوى الموضوع والمعنى، فلم ينحصر الموضوع في إطار التعبير عن تفاصيل الحياة اليومية كما وقعت في ذلك النماذج العديدة لقصيدة النثر، والتي حاول البعض التبرير لها من منطلق أن مفهوم الشعرية المعاصرة تحول إلى اعتبار الحياة اليومية هي مجال الشعرية، ونرى أن هذا مما سيودي بالشعرية العربية إلى مأزق لن تستطيع الخروج منه، إذ الشعر لايجب أن ينحصر في اتجاه أو موضوع، وإلا فأين التجريب؟
يقول محمد مظلوم في قصيدة “نحن برابرة طيبون” من ديوان “اسكندر البرابرة “(40):
إلى ندم رجعوا
أو أتوا
من شتات الجحيم
ولكنهم –كلما طبخوا في الجهات-
برابرة يرجعون
يضيئون في الأرض أمطارهم
وينيمون كابوسهم بملابسه السود
مشتبكين مع الفجر خدا بخد
ومنكسرين بمعركة الذكريات
…………
على أي وجه قتلتم
على أي وجه بعثتم
على أي وجه ستنهزمون؟
وبخاصة أن الشاعر قد استطاع مخالفة مفاهيم برنار عن قصيدة النثر واشتراط الاختزال فيها، مما فهم في الوعي العربي على أنه اختصار في حجم القصيدة، وهو ما خالفته تماما قصائد الديوانين، وفي الآن ذاته استطاعت الاختزال في مجانية الصور واعتمادها على مخالفة حتى أفق توقع المتلقي في استقباله للصورة، وهو ما احتكم إلى سر الشعر في قدرته على خلق علاقات لغوية جديدة على الدوام (فكرة الانزياح أو العدول كما يتداولها النقد) وفكرة النظم كما الجرجاني، وباختصار خلاصة ما أقرته الشعرية العربية الحقيقية وليست التبيعة للغرب.
علاقة التلقي بالإيقاع النغمي :
الإيقاع النغمي أحد العوامل الحاسمة في تحديد النوع الشعري، واستبعاد كل ما هو غير شعري، وهو ما يؤكد عليه صلاح فضل في معرض حديثه عن أساليب الشعرية المعاصرة، ورصد سلم الدرجات الشعرية على التوالي في : درجة الإيقاع، ودرجة النحوية، ودرجة الكثافة، ودرجة التشتت، ودرجة التجريد (41)، حيث تمثل البنية الإيقاعية بقسميها الخارجي والداخلي ” أول المظاهر المادية المحسوسة للنسيج الشعري الصوتي وتعالقاته الدلالية “(42) على حد تعبيره، إذ يرى أن ثورة الإيقاع في الشعر الحديث “قد انتقلت بالمظهر الصوتي الخارجي للشعر من مجرد عرف محتوم مقولب إلى بنية محفزة وسببية تتشكل من جديد في كل مرة “(43).
ولكن :
كيف يستقبل المتلقي الإيقاع (إيقاع ما )، ويتدخل في تحديد اشتغاله في النص؟
وما نؤكد عليه : أن الإيقاع يخضع في حكمه للاتفاق الثقافي، حيث لايمكن للأذن أن تعتاده وتتبينه إلا عبر ممارسات طويلة، تمتد لأزمنة متواصلة من الاستماع والتعامل مع اللغة المتضمنة إياه.
وفي الشعرية العربية القديمة، اعتادت الأذن الاستماع إلى الموزون المقفى، ثم الموشحات، ثم الموزون فقط (التفعيلي)، ولكنها لم تكن بعد قد توصلت إلى الإيقاع الكيفي، والإيقاع الداخلي للخطاب، وربما يعود ذلك لأسباب، منها : عدم البحث على المستوى النقدي واللغوي في مفهوم الإيقاع الكيفي وأنماط تشكله في النص الأدبي، ومن ثم عدم وضع الضوابط والمحددات التي تكشف عنه للمتلقي.
وهو ما يترتب عليه التغييب التام من الذاكرة العربية لهذا النوع من الإيقاع، لأن الجهل بالفعل لأي شيء يعني لدى البشر عدم وجوده بالقوة، وهو ما أفقد الإيقاع الكيفي عموما القدرة على استيعابه أو الإحساس به.
والإحساس في الإيقاع النغمي يتشابه مع الإحساس بالإيقاعات الموسيقية لكل آلة على حدة عندما تعزف مجتمعة.
وقد كان التلقي عاملا حاسما في الذائقة العربية لتحديد نوع النص من خلال إيقاعه الكمي دون الكيفي، إلى الدرجة التي هيمنت فيها النبرة الموسيقية العالية على إحساس المتلقي، فلا يشعر بالكسر، أو الخلل في الإيقاع الكيفي، وهو ما يتضح الآن في معالجة صوت المغني بالآلات الموسيقية والتكنولوجية، ومعالجة الإيقاع الشعري بالصوت بين المد والقصر، والإطالة والبتر، وهو ما أشار إليه محمد عبدالمطلب في معالجته لإحساس المتلقي بالإيقاعية على الرغم من اهتزاز قانون الإيقاع في الشعر إذ يرى أن السر يعود إلى “الإلحاح على الأذن العربية إلحاحا مستمرا لمئات السنين، وهذا الإلحاح يضعف إحساس الأذن بظواهر الاهتزاز في الإيقاع وعدم انتظامه، أو هو التعود على نوع من الإيقاع يجمع بين الانتظام وعدم الانتظام، إن هذا الإيقاع لم يتح لأي مرحلة إيقاعية من تلك المراحل التي تلت العمودية”(44).
وهذا الإحساس بالنغم ظلت سطوته مهيمنة على مستوى التلقي مع القصيدة التفعيلية التي مرت في تشكلها بمراحل ثلاث بدأت بإسقاط القافية والإبقاء على الوزن نقيا في المرحلة الأولى، ثم بالمزج بين بحرين أو أكثر من بحور تنتمي إلى دائرة عروضية واحدة كمرحلة ثانية، ثم عمدت إلى تهشيم ذلك بالمزج بين بحور من دوائر عروضية مختلفة كمرحلة ثالثة.
وحتى مع النصوص المعاصرة لم تزل بعد ذائقة التلقي تبحث عن هذا النغم الكمي الخارجي، فعندما يقول الشاعر إبراهيم الزيدي في قصيدته “خرائط الصمت “(45) :
وداعا /
كيف أنتظر..؟
وحبا /
كيف أختصر..؟
ووجدا أيقظ العشاق /شوقا
كيف ينكسر…؟
وكيف نموت أغنية؟!
ولا عود..!!
ولا وتر..!!
عندما يستقبل المتلقي هذا النص، وما يندرج في إطاره، فإنه يتوجه لرصد مقاطعها الصوتية في إطار المرجعية إلى البناء العروضي التراثي (رصد الصوامت والصوائت ) وما ينتجه من نغم، وذلك على الرغم من اشتمالها على نغم آخر ناتج عن الإيقاع النغمي، وهو إيقاع داخلي كيفي، فالإيقاع الخارجي يتحقق في نص الزيدي من خلال استخدام التفاعيل (مفاعيلن مفاعيلن….) الخاصة ببحر الهزج، وما يداخلها من زحافات وعلل، أما الداخلي فيتحقق من خلال موقع النبر والتنغيم والمدى الزمني، وهي جميعها خاضعة للتلقي، الذي يتغير بتغير المتلقي، وأليات قراءته، وإن كان هذا التلقي لن يغير من المعنى كما يحدث في بعض اللغات النبرية مثل الصينية وغيرها، والتي يختلف المعنى فيها باختلاف الضغط على المقاطع في الكلمة الواحدة.
أما في قصيدة النثر فإن الإيقاع النغمي هو الذي يحقق التناغم الصوتي في ذائقة المتلقي ويخلق موسيقية على نحو ما ليس مردها إلى كم التفاعيل والمقاطع كما هو الحال في الشعر التفعيلي، وإنما إلى النبر والتنغيم والمدى الزمني وما يرتبط بها من مهموس ومجهور ومقاطع، وهي في إجمالها ترتبط بالتلقي وبيئته وزمنه، غير أن التلقي في بيئاتنا العربية لم يزل بعد لايستطيع استقبال الإيقاع النغمي، إلا عندما يستمع إلى النص من خلال التلقي المباشر، حينها فقط يتمكن من تبيان بعض المظاهر الصوتية التي تنتج من طريقة الإلقاء، وهو ما يفتح الباب أمام تعدد تأويلات هذا الإيقاع بتعدد حالات الإلقاء وحالات الاستماع، فالنبر والتنغيم والمدى الزمني (وهي العناصر المكونة للإيقاع النغمي ) تعتمد على طريقة نطق الأصوات وإخراجها من درجة تردد الصوت ونوع الموجة وما يرتبط به من ضغط على مقاطع بعينها، إو إطالة في غيرها، وهو ما سيختلف حتما من قارئ إلى قارئ، أي من متلق إلى متلق آخر، وهو أيضا ما يفسر على مستوى ما اختلاف الأذواق في التواصل مع نص ما، وربما في حالة ما دون أخرى.
يعتمد الشاعر عاطف عبدالعزيز(46) على سبيل المثال بنية التدوير، وامتلاء الصفحة بالسطر الشعرى كشكل طباعى مهيمن، وخفوت النبرة الموسيقية العالية إلى إيقاع متردد ينتج من توترات النص واعتماده السرد الشعري، حيث يفرض الشكل الطباعى قراءة أخرى للنص مردها إلى الرؤية البصرية، إذ تملأ الجمل السطر، ويعتمد السرد بنية الزمن الحاضر، يقول في قصيدة الأوراق (مائدة لاثنين) (47):
يمشي الرجل إلى حتفه إذا ما جلس إلى امرأة تعترف بالحب، لاينفعه رفع كفه في مواجهة عينين ثابتتين، ولا رد أوراق إلى صاحبتها، سيبدو للحظة كما لو كان عازما على التفادي من مصيره، أو على إعاقة الملائكة عن العمل.
الملائكة الفاهمون بحكم التجربة لن يكترثوا للمماحكة، إذ يعرفون أن براءته مسألة فيها نظر، وأن نبالته تلك لا تليق سوى بكارهٍ مخلص، أما جسده فكان على الدوام تلا تتسلقه العاطلات من المسرة.
سيدونون تحت اسمه :
ليبق مشغولا بنفسه عن نفسه
ليكن نسيانه أدنى من قبره
ليخسر بالسعي ما لايخسره بالموت
سيدونون أيضا :
يمشى الرجل إلى حتفه كلما مشى.
إن هذا النص – وقد حافظنا على شكله الطباعي كما في الديوان – يعمد لكسر ألفة النغم بالمفهوم المتعارف عليه لدى الذائقة العربية، بدءا من امتلاء السطر الذي يتشاكل بدوره مع السرد النثري، ومرورا ببناء الصورة والانحراف الدلالي وبنية المجاز والتفتيت الزمني الذي يخرج النص من إطار السردية إلى إطار الشعرية، وانتهاء بالاعتماد على النبر الكيفي وليس الكمي بما فيه من إيقاع يظل مرهونا بالتلقي في استقباله أو إعادة إنتاجه ببنى صوتية تحيله إلى مرجعية شعرية، ولكن بمفهوم مغاير عن نمطها التراثي.
وعند الشاعر محمود الجرادي(48)، في قصيدته بعنوان “كالشمس مصلوبا على صدر الغمام ” يأتي الإيقاع النغمي معتمدا كلية على المتلقي في رصده من خلال المقول الشعري المعتمد على نطق المقاطع الصوتية على نحو تتحقق فيه الشعرية، وهذا بالطبع بعد أن تحققت فيه بنية التفتيت الزمني، وبناء العلاقات اللغوية غائبة المرجع، يقول :
متوحدا أنتظر
هبوب البحر من وجيب النبض
كى ألبس الصباح
رائحة شعرك
ومطر عينيك
كي أمنح أطفال المدارس
خبز يديك
وأمنح الطيور أسرار تغريدها.
علاقة التلقي بالبناء الزمني في الشعر :
لايمكن بأية حال بناء علاقة لغوية دون زمن، فالدرجة الصفر للكتابة بمفهوم بارت يصعب تحققها، إذ إن كل بناء نصي لابد أن يكون في سياق زمن داخلي كان أم خارجي.
ويعد الزمن أحد أهم المكونات في البناء النصي للأدب بعامة، ومن خلال الكشف عن حركته يمكن التمييز بين الأنواع الأدبية، فالسرد مثلا يعتمد البناء الزمني التراتبي، إذ بالضرورة لابد أن تسلم (أ) إلى (ب) وتسلم (ب) إلى (ج)، وحتى عندما يتم التبادل بين (أ، ب، ج) فإنه في النهاية لابد من وجود منطق يحكم حركة الزمن، إلى الأمام، أو إلى الخلف، أو حتى باعتماد ما يطلق عليه في لغة السينيما (الفوتومونتاج : حركة القطع المتوازي).
أما في الشعر فإن البناء الزمني يختلف، إذ لكي يكون الشعر شعرا لابد أن يعتمد التفتيت في الزمن وهدم مبدأ السببية الذي يعتمده السرد الروائي والقصصي(49)، وهو ما يحدث تنوعا في الدوال اللغوية (وليس المدلولات )، أي أن الدال الواحد يعطي مدلولات مختلفة، وهو ما يحتمله الشعر، ولايحتمله أي نوع آخر كالقصة والرواية، وتلك العلاقة يستشعرها المتلقي، وإن لم يكن بالضرورة يعرف آلية اشتغالها، فالدال في علاقته بالمدلول يبني علاقات زمنية منفصلة ومتقطعة (ينهدم فيها مبدأ السببية ) وعلى الرغم من ذلك فإن المتلقي يقبل هذا التفتيت.
والسؤال : لماذا يقبل المتلقي هذا التفتيت في بنية الزمن في الشعر ولايقبلها في أي نوع آخر من الفنون الكلامية (الرواية – القصة )؟
الشاعر باسم القاسم(50) يقول في قصيدة بعنوان “آخر الورثة من سلالة النخيل”(51):
طلقا
على جسدي بدأت الغيم
منذ نعومة الشفق الضرير
علقت ناصية الكلام
معالما غرقى بألوان الصمم
ما كنت أدرك أن للمعنى فصولا
لاتمر على الصور
حتى تلمست الهواء المر في جوف الحجر
فقرأت أسماء تساعدها الظلال لتكتمل
فهنا ليست هناك حكاية لتحكى، وليست هناك علاقات زمنية متراتبة وسببية، إذ ليس هناك شيء يسلم إلى شيء، بل تهيمن على النص الفجوات، والعلاقات المقطوعة، فالانطلاق لايسلم بالضرورة إلى أن يبدأ الشاعر الغيم على جسده، ولا إلى تعليق ناصية الكلام، ولاتسلم العلاقة الأخيرة إلى المعالم الغارقة بالألوان، ولا تسلم هذه بدورها إلى الصمم، فليست هناك ألوان للصمم في المرجعية الواقعية، وليست هناك فصول للمعنى، بل إن الواقع يفيد بأن كل معنى لابد أن يعبر عن صورة، وليست تلك جميعها مرتبطة بتلمس الهواء المر في جوف الحجر، وهكذا على مستوى العلاقات اللغوية للبناء النصي، إذ يعتمد كل سطر فجواته، التي تظل مؤجلة حتى يحل التلقي فيملؤها بتأويلاته وافتراضاته التي ستتنوع حتما بتنوع المتلقي وثقافته ووعيه الجمالي، وسيادة مفاهيم التلقي بعامة المرتبطة بالزمان والمكان.
وقد وسعت قصيدة النثر من بنية التفتيت الزمني إلى الدرجة التي أصبحت تحتكم إليه في شعريتها تجاورا مع العلاقة اللغوية التي يحكمها غياب المرجع، والإيقاع النغمي باعتبارها مكونات أساسية لقصيدة النثر، وبدونها تنتقص شعريتها، يقول محمد الحمامصي(52) في مقطع من ديوانه “موت مؤجل في حديقة “(53):
هي حفرة متيقظة
هو عصى غافلة
هما قبو معتم لصوت قديم.
ويقول في مقطع آخر :
أيها الضال
العمى بانتظارك
لاتحدق أكثر
الوجه مقبض سكين
والرأس نصلها..
فكل جملة شعرية في كل سطر، هي بنية سردية، ولكنها بنية سردية منفصلة على مستوى البناء الزمني مع سابقتها أو لاحقتها، بل تسعى لتأسيس مرجعيتها الزمنية إلى منطقها الداخلي، وإلى هدم أي سببية يمكن أن تنشأ حتى على مستوى التلقي من منظور التوقع المسبق، فالعلاقة بين “هي ” و “هو” و”هما معا ” تكاد تكون علاقة منمحية إلا من كونهما ينتميان إلى الهم الإنساني، أما على مستوى الحدث فهي علاقة منفصلة حتى في المصير، فالقبو المعتم للصوت القديم لا تربطه علاقة بـ “هي أو هو”، وكذلك الأمر في المقطع الثاني على مستوى علاقة الضال بالعمى، وعلاقة التحديق بالوجه الذي ينفصل في علاقته بكونه مقبض سكين، وكون الرأس نصل، وهو ما يفتح باب التأويل على مستوى التلقي على مصراعيه.
وكذلك الأمرعند الشاعر أحمد زرزور(54)، في قصيدته “على شرف الأربعين ” من ديوان “شريعة الأعزل”(55)، يقول :
رسائلك أيها الخريف وصلتني
ها أنذا أكنس السلم من ذكرياتي،
ذلك السحر تحدى “نيتشه “، وجعلني إنسانا أخيرا
أي آلهة تقطن النساء وتخضبنا؟
أعضاؤنا الشجية لاعمر لندائها
ولكن
أما من رعشة؟
فالبناء الزمني يتفتت إلى الدرجة التي يشي فيها باقترابه من السرد المفرط، حيث تبدو كل جملة وكل سطر كما لو كانت لاعلاقة لها بما قبلها أو بعدها، وكذلك لاعلاقة لها بموضوع القصيدة إذا كان هناك موضوع، اللهم إلا عندما يعمد الشاعر إلى إحداث المفارقة في نهاية النص بالبحث عن رعشة، وهي المفارقة ذاتها التي تفتح باب التأويل، وتجعل المتلقي مبدئيا يتواطأ مع هذا النص على أنه شعر، ومن ثم يعالجه على مستوى التلقى معالجة شعرية.
التشاكل العرفاني بين العمودي والتفعيلي – الشكل أم المضمون :
يتكئ النص الشعري على المعرفية من بين ما يتكئ عليه في البناء، إذ ما من نص إلا ويعتمد على معرفية، ويؤسس لمعرفة جديدة هي معرفة جمالية يصنعها النص في العلاقات والدوال والصور التي يبنيها.
وفي الشعر على اختلاف أشكاله وعبر تاريخه، تتخذ المعرفية نسقا مغايرا قياسا إلى الرواية والقصة، إذ يتسم الشعر بسمات منها :
– أولا : أن الشعر في ذاته هو إعادة تأويل وخلق دائمين ( الرؤية الشعرية ) وهو يعتمد في ذلك منطق غياب المرجعية أي هدم العلاقة بين العلة والمعلول، بين السبب والمسبب، أي هدم مفهوم التراتبية حيث (أ) لا يجب بالضرورة أن تسلم إلى (ب) أو أن يكون ناتج (أ) هو ( ب) وإنما يجب أن تنهدم في الشعر هذه التراتبية في المقام الأول كما سبقت الإشارة.
ولكن الشعر بهذا المفهوم لا يؤول مطلقا إلى معرفية علمية بمفهومها الذى نؤسس له، ذلك أن الشعر يصبح دوما إحالة إلى متخيل لا يمكن إخضاعه لمحك التجرة العلمية اللهم إلا مادته اللغوية، وهو ما لا نرمى إليه هنا.
– ثانيا : أن الأنساق المعرفية بمفهومها العلمي لا يمكن أن تتحقق في الشعر، إذ لا يمكن أن تكون المعرفة هي كل النص – مثلا – وإنما يتخذ الشعر أنماطا معرفية أخرى تؤسسها إشارات ورموز وتتجلى في الإحالات الدلالية التي تستدعيها أو تقتضيها أو تؤول إليها هذه الرموز، وهو ما يعتمد في المقام الأول على حرفية المبدع في تسيير المتلقي في المسار الذي تؤول إليه هذه المعرفة، وهو ما تتشكل معه الشبكة العلائقية التالية :
– معرفة سابقة للنص، تحيل إليها العناوين الرئيسة.
– معرفة أولية يستدعيها النص.
– معرفة تأويلية تنتج عن النص أو تؤول إليها المرجعية، وهي المعرفة المقصودة في الشعر، أي المعرفة الشريفة بمفهوم القدامى إن جاز التعبير، إذ إنها تمثل العلاقات الخطية /المنظومية التي تساهم في تكوين العالم / العوالم التي يشكلها النص / مجموعة النصوص، أي التدلال العام.
وتتجلى المعرفة السابقة للنص في المعرفة التي يطرحها العنوان /العناوين للعمل الشعري أو القصائد الداخلية بوصفه مدخلا أوليا للنص – عتبة أولى – تستدعي جملة من الدلالات والمتناصات Intertextuality التي يحملها المتلقي معه إلى عالم النص سواء بحثا عنها أو عن إعادة تأويلها، ويتجلى هذا النمط في العناوين التي تحيل إلى إحالات تراثية ( تاريخية أو دينية أو سياسية) لها صفة العمومية تحمل في مرجعيتها تناصا قد يتحكم – وهو بالفعل – في عملية التلقي، كأن يحمل عملا شعريا عنوان ( سفر التكوين – أحزان نوح – النبي أيوب………… إلخ )
ولعل مما تجدر الإشارة إليه هو أنه توجد فوارق بين التناص والمعرفية التي نحن بصددها، إذ إن التناص يمثل استدعاء على نحو ما لشخصية أو حدث أو قول كما تم تحديده نقديا ( الاستدعاء بالفعل أو بالقول أو بالاسم ) وفي كل الأحوال يعتمد إحداث تقاطع / تناص بين صوت جديد وصوت قديم، بهدف تعضيد الصوت الحاضر ( صوت النص ) بما يحمله الصوت القديم، أو مجادلته أو مجاورته أو السعي لهدمه.
أما المعرفية التي نقصدها في نسق متكامل أو يكاد، تتوزع بناه ومفرداته عبر النص في شبكة علائقية وعلى نحو مقصود لتكوين هذه المعرفية.
لقد وسعت الشعرية العربية من بنية العرفاني الصوفي تداولا واستدلالا من خلال التناص معه، أو التشاكل، أو الاستلهام، وهي مستويات لكل حقله التأسيسي :
فالتناص يكون من خلال استحضار الصوت الصوفي ممثلا في شخصية أو مقول أو حدث أو مكان، أو رمز، أو مفردة من المعجم الصوفي.
والتشاكل يأتي من خلال الاشتباك مع الفكر الصوفي إما بالتضاد أو المساءلة أو الجدل.
أما الاستلهام، وهو أصعب المستويات، فيأتي من خلال الاعتماد على روحانية الصوفية، والاتكاء عليها كمرجعية كامنة عند الكتابة، وليست ظاهرة منكشفة.
ويرى محمد المبارك أن الشعر الصوفي بعامة كان مهتما منذ بداياته بالمتلقي متوجها إليه واضعا إياه في مركز اهتمامه، فاهتموا بالغزل “بالغزل لا لذاته بل لجعله معبراً نحو دواخل المتلقي” (56) في محاولة للهيمنة على وعي المتلقي.
ولننظر إلى نصين من بيئتين مختلفتين أحدهما في مشرق الوطن العربي والآخر في مغربه وكلاهما تتحقق فيه الآنية والمعاصرة، وكلاهما يحمل عنوان “حلول”.
نص عمودي للشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي، وهو من ديوانها الأخير “امرأة من خزف الروح “(57) الصادر عام 2007م، وهو الديوان الحادي عشر، الذي يتخذ العمودية شكلا له، عقب دواوين تنوعت بين التفعيلي وقصيدة النثر.
ونص تفعيلي للشاعرة التونسية جميلة الماجري، من ديوانها الأخير “ذاكرة الطير”(58) الصادر عام 2006م، وهو الديوان الثالث.
حلول جميلة الماجري :
أي ريح ترى
حركت جمرة
في قرار الرماد
ما الذي جاء بي
كيف جئت أراوح بين عمرين
من أي عمر
أتيت بلنسية لست أذكر شيئا
عن الوقت
ملتبسٌ بالمكان المكان
ولكن بيتي بغرناطة
كنت غادرته ذات ليل شبيه
ومرسية؟
لست أذكر أني
أتيت بمفتاح بيتي بها
أي طيف إذن
يفتح الباب لي؟
مفسحا في اشتباه المكان لنا فسحة
موقظا في التفاصيل
ذاكرة من دخان.
وذا الليل ليلي الأليف
فهل كنت أخطأت حلمي
وضيعت بابي
إلى القيروان؟
وقد كان بيتي بها
قبل موتي الأخير
وكيف أواطئ ما بين موتين في الموت؟
ماذا أقول
لهذا الذي يفتح الباب لي قائلا :
“ادخلي بابك الخاطئ المستحيل”
وكيف سأفتح للشعر مسلكه في كسور اللغات؟
كل شيء بمرسية
مثلما رتبته يداي بليل الرحيل الأخير
عطوري.. وشالي الدمشقي غاف على وهم طيفي
جرار الخمور بها نشوة الطين شفت
فباحت بلون النبيذ يلون فخارها
ها أنا
قد بسطت لنا مجلسا بالفناء
وشيخي أقام تراتيله وانتشى
فارتجفت من الوجد
ناديت
“مولاي…
إني التبست
ففتح غيوبك لي
أي حلم حللت
وأي المدائن
هذي التي استدرجتني
وما أشعل الروح
حتى انبعاث الجسد؟
أما نص حلول للشاعرة “بهيجة إدلبي” فيأتي في الشكل العمودي، تقول :
في الرؤى صمت وفي الصمت حجـاب
والمـدى لـوح إذا ضــاق الكتاب
فغيابي فيـــك عن نفسي حضـور
وحضـوري في عن نفسي غيــاب
واقترابـي دون وجـد فيـك بعـد
وشــرودي فيك وجـد واقتـراب
وصلاتــــي بين عينيـك حلول
وحلولــي في المسافات انسحـاب
أنت كأسي حيـن لاتبقـى كـؤوس
وشرابي حيـــن لايرقـى شـراب
وجهاتي حين تمحونـي جهــــات
وفراتـي حين ينفــض الســراب
أنت غيبي إن تجلــى في كشـــف
أنت كشفي حين يحتــار الخطــاب
تهت حتــى أسرَفَت في التيه روحـي
وتمادى فـي رؤى الـروح الخــراب
وتماهى في دمــــي حزنا سؤالــي
فيك حارت حيرتي أين الجــــواب؟
يعتمد نص جميلة الماجرى في حلوله على الحلم وتداخل الرؤى لحالة من التيه تدخل فيها الشخصية الافتراضية في النص شخصية السارد (بطل الحكاية إن كانت هناك حكاية تحكى في الشعر)، فتحل المدن في السارد، ويحل فيه التاريخ، وتحل الرؤى محل المكان والأحداث، وهو ما يصل بها – الذات الساردة – لأن تكون الشخصية المجسدة لملامح وهوية الإنسان العربي في تيهه بين مدن الأندلس التي كانت ثم لم تكن (بلنسية وغرناطة ومرسية والقيروان )، غير أنها الآن في عقل المتلقي على صورتها القديمة، لكنها في واقعها على صورتها المنمحية، فأين الملامح والأحداث التي كانت منذ لحظة، هنا يلتجئ السارد /المتلقي إلى مولاه ليناديه الخروج من الحلم الذي حل فيه، وينتهي النص والنداء لا يستجاب، ويشي الحلول بحالته إلى التحلل.
هذا الحلول يعتمد على المفارقة بين تاريخين، تاريخ العرب القديم في الأندلس والمغرب العربي، وتاريخ العربي المعاصر الذي يتحسر على أنقاض الماضي، وكلتا الحالتين تحلان فيه بروح الحلول وليس بمفهومه الصوفي (الحلول والاتحاد) الذي ينسب إلى طائفة الحلولية ومن سار على نهجهم، حيث يشير لديهم إلى حلول الله تعالى في ذوات بعض مخلوقاته، حلولا كليا أو جزئيا، كما عبر عنه ابن عربي وابن الفارض والحلاج، ومثاله قول بن عربي ” أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا”.
هكذا تخالف الشاعرة الحلول بمفهومه الصوفي، وتكتفي منه فقط بالحالة، حالة الالتباس داخل الوجدان المعاصر، ممتزجا بالحلم، وبالمخيلة.. الموت (قبل موتي الأخير)، فهل الموت المشار إليه هو الفناء والانقطاع عن الحياة، أم الموت العربي في الأندلس، وبخاصة أن دلالة مفردة “الأخير” تفتح الباب أمام تأويلات التلقي على نحو متسع.
أما حلول بهيجة إدلبي، فينبني على المفارقة الضدية، أو ما يطلق عليه سوسيور الثنائيات الضدية، فيما تحدثه العلاقات اللغوية من تضاد، يعطي المعني ويسلبه، يبنيه ويهدمه، يوافقه ويضاده، فمن شطرة إلى شطرة تنقلب الحالة، وينحرف المعنى ليس انحرافا دلاليا فحسب، ولكنه انحراف وجداني بالمفهوم الصوفي، فالغياب حضور والحضور غياب، هذا مستوى، والغياب بالتشاغل عن النفس حضور، والحضور في النفس عن النفس غياب، ذلك مستوى ثان، فالآخر يحل في الأول، والأول يحل في الآخر، وإن كانت كل دوال النص لايمكن من خلالها تحديد كنه هذا الحلول، هل هو مستوى من العشق البشري، أم إحالة إلى العشق الإلهي كما أنتجته الشعرية الصوفية عبر تراثها؟ أم هي مخاطبة للنص على طريقة الشعراء حين يحلون في نصهم ويحل النص فيهم (الإلهام أو التلبس الشعري )؟ ذلك ما يحتمله النص إذ هو يقبل تعدد التأويلات بتعدد المتلقين، يحيلون النص إلى ذائقة التلقي لديهم، تبعا للثقافة والمعتقد وطبيعة المجتمع ومستوى الوعي، وغيرها من العوامل المتداخلة في بناء ذوق التلقي.
لقد استطاع النصان كل في حلوله أن يتكئ على العرفاني الصوفي بكافة أشكاله، بالتناص حيث يكثر الاتكاء على المكان وبخاصة في حلول جميلة الماجري، حيث تستدعي الدوال “مرسية، وشيخي ” محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية وأصيل مدينة مرسية الأندلسية وهو ما أشارت إليه الشاعرة في هامش القصيدة تعليقا على الدال “شيخي”، كما تستدعي القيروان في سياق البناء النصي حركات الزهد والتصوف عبر التاريخ، أمثال الزاهد الفقيه سحنون بن حبيب التنوخي المتوفى 240 هـ، و عبد الله بن أبي زيد القيرواني ت 389 هـ وعبد الرحمن بن محمـد بن عبد الله البكـري، والطائفة البكرية وقضية رؤية الله التي أثيرت آنذاك(59)، حيث تستدعي ذاكرة المتلقي النموذجي هذا الميراث وذلك التاريخ من الصوفية في البلدان التي يحيل إليها النص.
كما تتكئ بهيجة إدلبي في حلولها على الرموز والمفردات الصوفية بدلالاتها وتدلالها (الرؤى والكتاب واللوح والغياب والحضور والنفس والوجد والحلول والكأس والشراب والغيب والكشف والتيه والروح والحيرة ) وغيرها من المفردات المرتبطة بالمعجم الصوفي وسياقاته الإيحائية.
كذلك يعتمد النصان التشاكل مع الصوفي من خلال المساءلة والجدل، ويعتمدان الاستلهام بالاعتماد على روحانية الصوفية، ورموزها، ومرجعياتها المعرفية، غير أن الاستقبال (التلقي) يتدخل في تحديد موضوع النص ( العشق – التماهي – الفناء – القرب – التبتل -….)، وفي تحديد المعنى ومعنى المعنى بالمفهوم النقدي القديم المتجدد، وفي تحديد وتوجيه مسار الدوال، والتدلال العام لكل نص.
خاتمة :
هكذا نرى أن التلقي بالمعاني التي طرحت ليس جديدا على الشعرية والذوق العربي، فقد رأينا كيف كانت الذائقة العربية في تراثها تولي اهتماما للمتلقي في استقباله للنص، وكيف استمر ذلك مع الصوفية في توسلها إلى المتلقي بالشعر، ورأينا كيف أن التلقي مع شعرية الحداثة والنقد المصاحب لها يتدخل في تحديد النوع الأدبي وجمالياته بما يقره من اتفاقات جمالية في زمن ما وبيئة ما، وهو ما يشير إجمالا إلى تغير فعل الشعرية وعدم ثباته من منظور التلقي.
ورأينا أن النص الشعري الحديث لا يتوقف عند حدود تفسير أو قراءة واحدة فحسب كما كان يحدث مع الشعر العربي القديم، وإنما تتعدد قراءاته بتعدد قرائه، وهو ما أشار إليه كثير من الباحثين في الشرق والغرب، فالمجاز بوصفه إحدى خصائص الشعرية يتوقف على التلقي في تحديد اشتغاله (كونه مجازا من عدمه )، والمرجعية اللغوية للمقول الشعري تحال إلى التلقي، والمفارقة بوصفها إحدى البنى التي اعتمدت عليها شعرية الحداثة تعتمد في أحد جوانبها الإنتاجية على التلقي، سواء أكانت مفارقة على مستوى البناء اللغوي والدلالات أم على مستوى المعنى والتدلال أم على مستوى بناء الصورة أم مفتتة عبر النص.
ثم رأينا كيف أن الإيقاع الداخلي الكيفي بعناصره (النبر والتنغيم والمدى الزمني ) يحتكم في تشكله إلى الاتفاق الثقافي الذي يؤوول في مرجعيته إلى التلقي، وإن كانت قصيدة النثر تحتاج إلى الإلحاح على الأذن لزمن طويل حتى يمكن اعتياد هذا الإيقاع فيها والكشف عنه، كما حدث مع الإيقاع الكمي المتمثل في التفاعيل وما يداخلها من زحافات وعلل.
كذلك وسعت الشعرية المعاصرة وبخاصة قصيدة النثر من تفتيت البناء الزمني بإحداث الفجوات في بناء النص، وهو ما يفتح الباب أمام التلقي لملئها، ومن ثم التدخل في إعادة بناء النص، وتعدد قراءاته.
واختتمت الدراسة ببحث التشاكل العرفاني بين العمودي والتفعيلي، إذ يتضمن النص الشعري إحالات معرفية بأشكال عدة، ولكنها تظل في نهاية الأمر مؤجلة المعنى رهنا بالسياق، وبالتلقي تبعا لثقافة المتلقي وتأويله لهذه الإحالات، وهو ما طرحنا عليه نموذجا من العرفاني الصوفي في نصين متجايلين اتخذ أحدهما الشكل التفعيلي والثاني الشكل العمودي، وكلاهما استطاع أن يحقق جمالياته بالإحالة إلى المتلقي، والتأكيد على أن القصيدة هي الأولى بالعناية وليس الشكل.
الهوامش والمراجع:
1. المقصود بالشكل هنا أبنية الكتابة الشعرية، من شكل بصري، وقافية ووزن، وأشهرها الشكل العمودي والشكل التفعيلي وشكل قصيدة النثر، وما يستتبع كل شكل من معايير حاكمة.
2. يمكن العودة في ذلك إلى :
 الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني– ج3- القاهرة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1992م- ص65.
 البغدادي: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب – تحقيق عبدالسلام هارون- ج3- القاهرة– مكتبة الخانجي- 1997م- ص112.
 المرزوقي، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن: أمالي المرزوقي– تحقيق يحيى وهيب الجبوري – ج1– المغرب- دار الغرب الإسلامي- 1995م- ص467.
 العسكري، أبو أحمد الحسن بن عبد الله: المصون في الأدب– تحقيق عبد السلام هارون- ج1-القاهرة- دار الرافعي – 1982م- ص 1.
3. يمكن العودة إلى :
 خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب – ج1- ص189.
 ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم : الشعر والشعراء– تحقيق أحمد شاكر- ج1 – القاهرة – دار المعارف– 1966م- ص154.
 الخفاجي، ابن سنان: سر الفصاحة- ج1- بيروت – دار الكتب العلمية – 1982م- ص185.
4. يمكن العودة إلى :
 الجرجاني، عبدالقاهر : أسرار البلاغة – شرح وتعليق محمد عبدالمنعم خفاجي-ج2- القاهرة – مكتبة القاهرة – 1976م- ص 29، 37، 39، 40.
 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر محبوب الكناني : الحيوان– تحقيق عبدالسلام هارون-ج1 – القاهرة – 1969م- ص131.
 الإربلي، أبو المجد أسعد بن إبراهيم النشابي: المذاكرة في ألقاب الشعراء– تحقيق شاكر العاشور-ج1- بغداد- وزارة الثقافة والإعلام- 1988م- ص19.
5. القيروانى، ابن رشيق: العمدة فى محاسن الشعر وآدابه – تحقيق محيي الدين عبد الحميد-ج1- بيروت – دار الجيل –1981م- ص99.
6. الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر: الموازنة بين أبي تمام والبحتري – تحقيق محيي الدين عبد الحميد-ط3– القاهرة – مطبعة السعادة- 1973م- ص 176.
7. الجرجاني، القاضي علي بن عبدالعزيز: الوساطة بين المتنبي وخصومه – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي-ط1- بيروت- المكتبة العصرية- 2006م– ص309.
8. الجرجاني، عبد القاهر: دلائل الإعجاز- قراءة وتعليق محمود محمد شاكر-ط3- القاهرة- مكتبة الخانجي- 1992م- ص55 : 56.
9. القعود، عبدالرحمن محمد : الإبهام في شعر الحداثة “العوامل والمظاهر وآليات التأويل” – الكويت – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- سلسلة عالم المعرفة – مارس 2002م – ص293وما بعدها.
10. الإبهام في شعر الحداثة – ص 299.
11. خمري، حسين : الظاهرة الشعرية العربية، الحضور والغياب – دمشق – اتحاد الكتاب العرب – 2001- ص 27.
12. الظاهرة الشعرية العربية – ص 54.
13. المبارك، محمد: استقبال النص عند العرب –ط1- بيروت– المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 1999م – ص 91.
14. شاعر سوري معاصر، له دواوين منها : أكسر الوقت وأمشي، لو تعرفين، نشيد لم يكتمل، لاهدنة للماء، آخر.. أول الطقس .
15. شاعرة سورية معاصرة، لها دواوين منها : على عتبات قلبك أصلي، وأبحث عنك فأجدني، والسمراء في برج الحداد، ونهر الكلام يعبر من دمي، ورحلة الفينيق، وسفر التكوين، ولها أعمال روائية منها : الغاوي، ورحلة في الزمن العمودي.
16. أحمد، توفيق: نشيد لم يكتمل – ط1– سورية – طبعة خاصة- 2001م – ص5.
17. إدلبي، بهيجة مصري : امرأة من خزف الروح –ط1- دمشق– التكوين للتأليف والترجمة والنشر– 2007م- ص31.
18. ياكبسون، رومان: قضايا الشعرية – ترجمة محمد الولي ومبارك حنون-ط1 – المغرب– دار طوبقال –1998م- ص19.
19. قضايا الشعرية : ص20.
20. استقبال النص عند العرب – ص 160.
21. لانعني بالمجاز هنا مجرد حصره في مفهومه البلاغي القديم المتمثل في المجاز المرسل بعلاقاته السببية والمسببية والحالية والمحلية…….، ولكن نعني به المجاز بمفهومه العام بوصفه أحد منجزات الثقافة العربية في مقابل الحقيقة التي تكتفي بمجرد الإخبار، وبالتالي سيشمل المجاز : الاستعارة والكناية والتشبيه وكل ما يمكن أن يسير في مسارها من أساليب بناء الصورة في إطار العوالم الممكنة، تلك العوالم التي لاتكون إلا من خلال العلاقات اللغوية التي يبنيها النص، وبالتالي علاقة هذه الصور بالبناء النصي ككل وصولا إلى التدلال بمفهومه العام، كما أشار إليه ريفاتير مثلا في كتابه : دلائليات الشعر – ترجمة محمد معتصم-ط1 – الرباط – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –1997م- ص53 : 76.
22. مع الوضع في الاعتبار أن غياب المرجع ذاته يتحكم فيه التلقي، فكثيرة هي الاستعارات والمجازات والانحرافات الدلالية التي صارت جزءا من تكويننا واستخدامنا اليومي، إذ لم تعد تدل على عوالم ممكنة، وإنما ترسخت مرجعيتها، مثل قولنا لشخص ما : أنت روحي، وأنت قلبي للدلالة على الحب، وشخص فيل مثلا للدلالة على السمنة، وغيرها من العلاقات اللغوية التي بدأت مجازا يهيمن عليها غياب المرجع، ولكنها اكتسبت حضورا مرجعيا بفعل الاستخدام والتداول.
23. شاعر وطبيب سوري، ورئيس تحرير مجلة فكر الأدبية.
24. حافظ، أحمد: أعشاش الأبد –ط1- بيروت- دار الفارابي- 2008م- ص79، وما بعدها.
25. العوالم الممكنة نظرية مستمدة من المنطق الصوري، وتعني بناء عالم ممكن على مستوى التخيل مع استحالة وجوده منطقيا، وهو ما يتحقق في العلاقات اللغوية التي يهيمن عليها غياب المرجع، أي التي لايمكن إحالتها إلى المعجم أو الواقع، وإنما إلى التلقي فقط، حيث تتم الإحالة إلى معرفة غير موجودة مسبقا، وإلى عالم غير موجود بالفعل ولكن أوجدته الكلمات، وأوجده المتلقي في ذهنه على المستوى التخييلي، يقول فان دايك : “العالم الممكن هو على وجه أكثر تخصيصا أمر من الأمور ممكن أن تحدث فيه مجموعة من القضايا مستوفاة على الدوام، غير أن العالم الممكن لاينبغي أن نماثله مع أفكارنا البديهية عن عالمنا نحن، وواقعنا، بل ينبغي أن نعتبره بناء مجردا ” – دايك، فان: النص والسياق “استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي “- ترجمة عبدالقادر قنيني- ط1– الدار البيضاء – أفريقيا الشرق –2000م – ص 52.
26. شاعرة تونسية، رئيس اتحاد كتاب تونس، من أعمالها : ذاكرة الطير، وديوان النساء.
27. الماجري، جميلة: ذاكرة الطير –ط1– تونس– الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم- 2006م –ص91.
28. شاعر سوري من أعماله : بغداد، ثم ليلى، كلمات بلون الحب.
29. الزيدي، إبراهيم: كلمات بلون الحب –ط1– دمشق – دار كنعان للدراسات والنشر- 1996م- ص101.
30. مويك، دي سي : موسوعة المصطلح النقدي، المفارقة – ترجمة عبدالواحد لؤلؤة– مج 4-ط1-بيروت – المؤسسة العربية للدراسات والنشر– 1993م- ص43.
31. يمكن العودة في ذلك إلى :سليمان، خالد : نظرية المفارقة- مجلة أبحاث اليرموك-سلسلة الآداب واللغويات- مج 9- ع2- 1991- ص55-84.
32. شاعر سوري، له دواوين عدة منها : قصائد مشرفة على السهل، والأسرار، وقليل من الوجد، وأعالي الحنين، وعناقيد الحكمة، والغزال، والأعمال الشعرية الكاملة.
33. عليشي، صقر: الغزال –ط1– دمشق – دار الينابيع –2009م – ص23.
34. شاعر مصري معاصر، وله دواوين منها : هواء جاف يجرح الملامح، وبورتريه آخر لكونشيرتو العتمة، وغاية النشوة، وبهجة الاحتضار، والسريون القدماء.
35. سمير، مؤمن: هواء جاف يجرح الملامح-ط1 – القاهرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة –2000م – ص 23.
36. حول موضوع “اتجاهات التجريب في الشعر المعاصر” يمكن العودة إلى : الضبع، محمود: اتجاهات التجريب في مشهد الشعر المصري المعاصر – مجلة فصول – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ع58– 2002م – ص202، وإلى كتاب قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية – ع138- القاهرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2003م، ص 341- 371.
37. شاعر عراقي مهاجر، له دواوين منها : قفا نبك، ووردة البيكاجي، والحقائب، والنقر على أبواب الطفولة، والشاهدة، ونزهة الآلام، وسراباد، ودقات لايبلغها الضوء، وله ترجمات شعرية عن الفرنسية لجاك بريفيير وجون بيرس.
38. كاصد، عبدالكريم: قفا نبك – ط2– دمشق – الأهالي للطباعة والنشر– 2003م – ص 7: 8.
39. شاعر عراقي مقيم في سورية، له دواوين منها : بازي النسوان، وإسكندر البرابرة.
40. مظلوم، محمد: إسكندر البرابرة – ط1-دمشق– نينوى –2004م – ص24.
41. فضل، صلاح : أساليب الشعرية المعاصرة – ط1- القاهرة – دار قباء – 1998م – ص27.
42. أساليب الشعرية المعاصرة – ص 28.
43. أساليب الشعرية المعاصرة – ص 29.
44. عبدالمطلب، محمد: النص المشكل –ط1– القاهرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة –1999م – ص301م.
45. الزيدي،إبراهيم:ثم ليلى–ط1– دمشق– آفاق للدراسات والنشر- 2000م- ص6.
46. شاعر مصري معاصر، له دواوين عدة، منها : الفجوة في شكلها الأخير، وذاكرة الظل، وحيطان بيضاء، وكائنات تتهيأ للنوم، ومخيال الأمكنة، وسياسات النسيان، وسيرة الحب.
47. عبدالعزيز، عاطف: مخيال الأمكنة –ط1– القاهرة – هامش1– 2005م – ص 48.
48. شاعر سوري معاصر.
49. مع الوضع في الاعتبار أن السرد الشعري لايخضع لمنطق السرد الروائي والقصصي، حيث يعتمد الأخير على ملء الفجوات والربط بين السبب والمسبب، في حين ينحرف السرد الشعري عن مسار القص ولاتكون الحكاية – إن كانت هناك حكاية – مكتملة على نحو ما، إذ لابد أن تنهدم فيها السببية، وإلا صارت نظما سرديا يتغيا الشعر، وتلك إحدى الملامح الفارقة بين قصيدة النثر، وبين النثر السردي الذي يعتمد شعرية اللغة والمجاز، وإن كانت شعريته غير مكتملة.
50. شاعر سوري له عدد من الأعمال المسرحية وبعض الكتابات للأطفال.
51. القاسم، باسم: آخر الورثة من سلالة النخيل –ط1– دمشق– دار الفرقد –2006- ص11.
52. شاعر مصري وصحفي معاصر، له أعمال منها : موت مؤجل في حديقة، والجسد والحلم، ولا أحد يدخل معهم، والنور قارب على الزوال.
53. الحمامصي، محمد: موت مؤجل في حديقة –ط1– القاهرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة –2008م -34.
54. شاعر مصري، له دواوين عدة، منها : الدخول في مدائن النعاس، جنون من الورد، حرير الوحشة، هكذا تترمل الإمبراطوريات، شريعة الأعزل، وله دواوين للأطفال.
55. زرزور، أحمد: شريعة الأعزل–ط1– القاهرة– الهيئة العامة لقصور الثقافة –2006م- ص17.
56. استقبال النص عند العرب – ص 198.
57. ذاكرة الطير – ص 81 وما بعدها.
58. امرأة من خزف الروح – ص27 وما بعدها.
59. يمكن العودة في ذلك إلى : اليحصبي، أبو الفضل عياض بن موسى: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك – تحقيق أحمد بكير محمود- ج2- بيروت -منشورات دار الحياة ودار مكتبة الفكر – 1967- ص 337، وإلى : المالكي، أبو عبد الله بن محمد: رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهادهم ونساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم- تحقيق البشير البكوش- ج2-بيروت – دار الغرب الإسلامي-1981م- ص 182 وما بعدها.

“الدراسة نقلا عن المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت”

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

الشاعر والناقد اليمني عبدالعزيز الهاشمي يكتب: حول المجموعة القصصية (سيدة الجبن) لمنال الأخرس

التعليقات على الشاعر والناقد اليمني عبدالعزيز الهاشمي يكتب: حول المجموعة القصصية (سيدة الجبن) لمنال الأخرس مغلقة

د.رضا شحاته يكتب الرسالة “6”: الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم

التعليقات على د.رضا شحاته يكتب الرسالة “6”: الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم مغلقة

الشاعر سعيد شحاته يكتب: ياشباب مصر.. هل تعرفون عبد الناصر علام ؟

التعليقات على الشاعر سعيد شحاته يكتب: ياشباب مصر.. هل تعرفون عبد الناصر علام ؟ مغلقة

د.رضا شحاته يكتب الرسالة 10: رحيل سعد الخادم ..وتغريدة البجعة الأخيرة

التعليقات على د.رضا شحاته يكتب الرسالة 10: رحيل سعد الخادم ..وتغريدة البجعة الأخيرة مغلقة

بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع

التعليقات على بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع مغلقة

شيلدون أديلسون: إمبراطور القمار و”صانع الملوك” الذي نقل سفارة أمريكا إلى القدس

التعليقات على شيلدون أديلسون: إمبراطور القمار و”صانع الملوك” الذي نقل سفارة أمريكا إلى القدس مغلقة

ننشر فيديو لإحدى قراءاته: وفاة الشيخ محمد محمود الطبلاوى

التعليقات على ننشر فيديو لإحدى قراءاته: وفاة الشيخ محمد محمود الطبلاوى مغلقة

بالفيديو: بمبادرة شخصية”ترك” طبيبة مصرية تلف المحافظات للتوعية ضد كورونا

التعليقات على بالفيديو: بمبادرة شخصية”ترك” طبيبة مصرية تلف المحافظات للتوعية ضد كورونا مغلقة

دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات

التعليقات على دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات مغلقة

د.رضا شحاته يكتب الرسالة9: المرأة فى حياة سعد الخادم..”الأم.. الصديقة.. الزوجة”

التعليقات على د.رضا شحاته يكتب الرسالة9: المرأة فى حياة سعد الخادم..”الأم.. الصديقة.. الزوجة” مغلقة

الدكتور محمد عبد الله حسين يكتب: فليرحمه الله

التعليقات على الدكتور محمد عبد الله حسين يكتب: فليرحمه الله مغلقة

Create Account



Log In Your Account