د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟

د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟

د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟

التعليقات على د. رضا شحاته يكتب الرسالة(٧): هل كان سعد الخادم البرجوازى .. شيوعياً .. في الثلاثينيات من القرن العشرين؟ مغلقة


سعد الخادم لم يكن صانع ساعات أعمى .. ولم يكن قديساً . قد يبدو متعالياً فى العلم ولكنه عند الحقيقة كان متواضعاً أمام المعنى وحق اليقين الكامن فى الأشياء . تعلمنا منه بهدوء ودون وعظ وبقليل من الكلام العابر حكمة الحياة واسرارها .. فهذا الرجل ذو الظل الطويل إكتشفنا بعد موته أنه ترك فينا الذكريات المسكونة بالضوء والحلم ومنحنا رائحة العطر وطاقة الروح المتجددة فى رحلة الحياة .. ومع الزمن أدركنا أنه أغلق بداخلنا دهاليز مظلمة , وأَوْصَدَ أماكن فارغة خاوية كان يمكن أن تختبئ فيها بذور الشك , و زيغ الرؤية تجاه السماء ..

عندما قررت أن أكتب عن تجربة سعد الخادم الإيمانية عبر الرسائل التى تركها لنا, , تذكرت هذه الجملة التى وردت على لسان الممثل محى إسماعيل “حمزة” أبن عزيزة الهبلة فى فيلم الإخوة الأعداء المأخوذ عن رواية الإخوة كارامازوف الشهيرة للكاتب الروسى فيودور دوستويفسكى .. حين يقول “إذا لم يكن الله موجوداً، فُكلّ شيء مُباح ” وكلما سمعتها ينتابنى الخوف من الأشخاص عديمى الضمير الفارغة قلوبهم من طيف الله.
لا أستطيع تحديد دافع خاص كان وراء كتابة هذه الرسالة فهى مزيج من النقد والحب والبوح والدفاع عن من نحب .. لذلك أوثر أن أسلك طريقا يفتش عن صورة ملائمة وصحيحة تعتبر أفضل تعبير عن فكرة الحقيقة فى مسيرة سعد الخادم كما أراها.. وأعتذر لأن الباحث الأكاديمى داخلى تغلب فى هذه الرسالة على الكاتب الذى يملك لغة رشيقة وشيقة.

ما الذى يجب على المرء أن يفعله لكى يبدأ؟ …………………………………………

فى البداية : سأعرض وجهة نظرى كقارئ محايد وموضوعى .. وهذا ما لا أستطيع تأكيده.

يجب إحترام الحياة الخاصة وحق الفرد فى حفظ أسراره والحفاظ عليها بعد مماته وما يفزعنى هو أن يأخذ إنسان حق الآخر ويصادره. لا يجوز إنتهاك الحياة الخاصة جدا وينبغى تجنب نشرها على صفحات الكتب.
ومن الأمانة عند تناول سيرة سعد الخادم الذاتية أو حياته الخاصة وعوالمه الإنسانية والروحية من خلال الوثائق أو الرسائل التى تركها , واستئمن البعض عليها .. كان لابد من الاختيار الحذر والمتوازن للوثائق لعرض الحقيقة عند التفكير فى نشرها على الناس ، حتى لا تبتلع الدلالة السلبية التى تصل إلينا من قراءتها , المعنى النبيل والهدف السامى من نشرها , وتنقلب الأمور من عملية تكريم إلى عملية تشويه لمسيرة رجل فى رحاب الله كان ضميراً وكان جسوراً .. علمنا قول الحقيقة بدون تنميق أو زواق في الكلام.

وإذا جئنا إلى الإشكالية التى نتحدث عنها هنا فى الرسالة فهى تتبلور فى هذا السؤال المزدوج .

س: هل كان سعد الخادم هذا الأرستقراطى يسارياً ؟ وهل اعتنق الوجودية الملحدة أثناء بعثتة في لندن عام 1937؟…………………………………………………

هذا هو السؤال المشهر في وجوهنا ، والقادم إلينا من ثنايا بعض الرسائل الخاصة لنعمت هانم ذو الفقار والمتبادلة مع إبنها سعد الخادم فى الفترة من 1936 إلى 1939 والمنشورة في الكتاب الوثائقى للسفير القويضي , المعنون تحت إسم “الفنان سعد الخادم أرستقراطي شعبي الهوى”. ومن سخرية الأقدار أن سعد الخادم كان بجوارنا ولم نسأله في يوم من الأيام هل أنت شيوعى يا أستاذ ؟.. هذا السؤال المشكلة الذى سبب لنا الحيرة !

الهروب للداخل أو التمهيد للأجابة على السؤال الصعب …………………………..

ظاهرة الشباب اليسارى فى الفن والأدب والبحث عن العدالة الإجتماعية كان هو الهاجس الكونى المشتعل فى الثلث الأول من القرن العشرين .. لقد كانت ظاهرة الشيوعية ظاهرة كونية، وكان الفكر الماركسي هو موضة العصر للشباب الطليعي المتمرد، وبخاصة الشباب الذي اصطدم مع التقاليد الغربية من شباب العالم الثالث المبعوثين للتعليم فى أوربا، والذي يغلب عليهم الأصول الأرستقراطية. أو الدارسين فى الداخل من خريجى المدارس الأجنبية .. ولقد لعب الأدب العربي دوراً هاماً في رصد هذه الصدمة الحضارية التى يتعرض لها الشباب الشرقى عند تفاعله مع الحضارة الغربية بصيغ مختلفة، وبخاصة عند توفيق الحكيم في “عصفور من الشرق”، وعند يحي حقي في “قنديل أم هاشم” , “والحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح، “وشرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف.
لقد كانت هذه الأفكار اليسارية هي صيحة العصر المرادفة للتقدم والتحرر، والمعارضة للرجعية و للراديكالية والبرجوازية المتعفنة. ولعل الفنانة إنجى إفلاطون نموذج تسكن فيها بوضوح الإشكالية التى نتحدث عنها. وخير مثال على ذلك فهى الأرستقراطية التى تتحدث الفرنسية ولا تجيد العربية ، والتى انضمت إلى المنظمة الشيوعية الشرارة (إيسكرا)، عام 1942 وأنضمت للحزب الشيوعى المصرى عام 1958م وأصبحت قيادية فيه . واعتقلت وسجنت فى مارس عام 1959.

توجد مشكلة .. لاتوجد مشكلة .. أين المشــــكلة؟………………………………..

وقبل التناول بالتحليل السؤال الذي أتي إلينا عبر القراءة والإجابة عليه .. سأختار بعض الأجزاء من خطابات نعمت هانم حتى يتسنى النظر إلى قصة الإشكالية المرتبطة بسعد الخادم وتتضح معالمها وذلك على النحو التالى :

رسالة (1) : من مادكوشكو تركيا، يوليو 1937م

عزبزى : سعدى
“… نحن في اسطنبول منذ أسبوع، أرهقني السفر جداً وخاصةً أن المركب كان سيئاً. أصابني دوار البحر طول الرحلة، ومازلت لم أتعافي حتي الآن…احتفظت معي بالخطاب الذي أرسلته للقاهرة، لكي أجيب علي ما كتبته، لكن حالتي علي ما يرام لأقوي علي الرد. سوف أرد في يوم ما علي التساؤل الآخر، ولكن ستكون الإجابة مطولة، ولن أستطيع ذلك اليوم. ألاحظ أنك تتأثر بالكتب التي تقرأها.. فلكل منا أفكاره التي يكتبها، أو يقولها … ذلك أنت أيضاً، يجب أن يكون لك أفكارك وتوجهاتك الخاصة بك، ولا تتأثر بالآخرين. إقرأ باستمرار، انتقد، إختار الأفضل بعد تدوير الأفكار مرات ومرات داخل ذهنك … كيف للشخص أن يكون بلا دين؟ رجل بدون إيمان ماذا يكون؟
وهؤلاء الرجال يكتبون هذه الكلمات كيف يواجهون ربهم بعد ذلك. لا يا سعد.. حاول أن تجعلني مستمرة في حبك من قلبي.. .. لا أحبك أن تكون بلا ديانة!
كل ما عليك هو أن تفهم جيداً دينك وستجده أفضل الديانات. لا يجب أن نحكم علي الأشياء بسطحية… ” والدتك

وفي رسالة (2) : من تركيا أيضاً , 19سبتمبر 1937م

عزيزي سعد
” … لا أريد أن أتصور أن إبني الذي هو قطعة من قلبي وروحي لا يمتلك نفس القلب الذي هو جزء من قلب أمه، ولا يكون مرتبطاً بربه وديانته وبلده. ولكني أرجع وأطمئن نفسي أن هذا لا يمكن أن يحدث أبداً.. لا أعتقد أن قلبك بهذه القسوة حتي تنسي أمك ودينك وبلدك .. فهذه الأشياء الثلاثة مقدسة وغير قابلة للدنس.
أقبلك وأتمني أن تتصرف بعقلانية، وتفهم الحياة بطريقة حكيمة، واعلم أنك كلما تكبر ستري العالم بطريقة مختلفة.” والدتك.

والسؤال هنا : ماهي حقيقة الأزمة المطروحة ؟……………………..

فى واقع الأمر .. نحن لا ندافع عن سعد الخادم فسواء كان هذا الرجل متديناً أو لا دينى ـ وهذا غير صحيح ـ في تلك الفترة الزمانية من عام 1936 إلى عام 1939.. فإن هذا لا يضيرنا في شيء. ولا يضير سعد الخادم أنه في فترة تاريخية ما كان ماركسياً،. فالكثير من المفكرين فى هذه الفترة قبل الحرب العالمية الثانية قد مروا بفترات تأرجحت بين الشك واليقين فى المعتقد الدينى والأمر الآن أصبح في ذمة التاريخ والعبرة بالخواتيم.
وإذا سلمنا بصحة الأمر فالإشكالية ليست فى هذا الإستنتاج هنا بالرغم من أن الرسائل فى مجملها لا تتبنى هذه النتيجة بوضوح! الأمر بالنسبة إلينا لا يتعلق بالتحيز لسعد الخادم ، ولكن القضية هي أن هذا الكلام بهذه الصورة المطروحة وبدون تعقيب أو توضيح .. هل يعبر عن حقيقة واقعية؟

وقبل أن نتكلم عن الإشكاليات فى هذه الرسالة يجب أن نتوقف وننوه بالنوايا الطيبة, وبالعطاء الذى يبذله سعادة السفير يسرى القويضى فى الحفاظ على ميراث آل سعد الخادم .. ويبذل فى ذلك الجهد والمال وحسن النية , وأن ما أكتبه هنا لا يقلل من احترامى وتقديرى له على المستوى الشخصى والاختلاف فى الرؤية يجب ألا يفسد الود بيننا.

من خلال القراءة لكتاب “سعد الخادم أرسقراطى شعبى الهوى” فى ضوء أدبيات كتابة السير الذاتية ، لابد وأن نتوقف أمام إشكاليتين تسببتا فى هذه الحيرة الوجودية عند التصنيف الأيدولوجى لسعد الخادم وقراءته وجدانياً قى الفترة من عام 1936 إلى عام 1939 .

إشكالية (1) : الكلام عن الحياة الخاصة جداً دون الاستذان بالنشر………………….

ثمة غياب للحرفية في عملية الاختيار فيما يترك، أو ينشر من وثائق، عندما يرتبط الأمر بالسيرة الخاصة لحياة سعد الخادم وبخاصة عندما نتطرق إلى القيم الروحية. على هذا النحو الغامض وبصراحة يساورني الغضب من نشر بعض الرسائل الشخصية جداً والمرتبطة بحياة سعد الخادم . فالمراسلات جزء من الحياة الخاصة يجب استئذان صاحبها قبل النشر، فنحن أمام سيرة عالم جليل وليس نجماً سينمائياً فى هوليود حياته مباحة للعامة! وأعتقد أنه ومن المؤكد لمن يعرف سعد الخادم يدرك أنه كان لا يسمح مطلقاً بالنشر فيما يخص هذه الإشكالية في حياته أو بعد مماته.
ويبقي السؤال الجدلى مطروحاً: من له الحق في نشر هذه الرسائل ؟ لرجل فى ذمة الله.

إشكالية (2) : عدالة الطرح للوثائق .. غموض الرؤية يؤدى إلى فساد الاستدلال عند القراءة ………………………………….

وهو الأمر الذي يتعلق بعدالة الطرح للحقيقة. فمن الأمانة العلمية عند إثارة قضية إشكالية خطيرة تتعلق بفكرة الاعتقاد الديني عند سعد الخادم في الفترة الزمنية من عام 1936 إلي عام 1939م , علي قارئ عادي لا يعرف من هو سعد الخادم ، كان يجب أن يتاح له عرض وجهتي النظر بعدالة عليه لاستجلاء الحقيقة والرؤية ،
ولكن عندما يتم نشر مجموعة مختارة من الرسائل هي ردود لوالدته وأخيه وصديقه، تفند بالتحليل والمسائلة رسائل سعد الخادم المفقودة أو التى لم يعثر عليها ولم نعرف عنها شيئاً ! إذاً نحن أمام وجهة نظر أحادية متحيزة تطرح علي القاريء وهذا أمراً محيراً له وتتركه في شك وريبة، وهو يستنبط رؤية أو يرجح حقيقة في ظل نصوص متبادلة غير مكتملة .
أعتقد أن مكمن الخطر فى هذا الطرح للرسائل سيؤدي إلي انزياح كبير في الدلالات المقصودة من الكلام عند القراءة ، وهو ما يترتب عليه فساد في الاستدلال , وشك كبير في المعاني التي نستنبطها، ومن ثم لن نصل إلي كلمة الحقيقة في هذه الإشكالية. المفتوحة على كل الأحتمالات هل كان سعد الخادم ملحداً فيما بين عام 1936 وعام 1939 م .

الحاجة إلى قراءة متعددة الطبقات للوثائق .. لصدق التأويل…………….

نحن في حاجة إلي قراءة طباقية تسعى لمساعدة القارئ العادى لتلك الرسائل فى القبض على معنى المعنى عبر طريقة فى الطرح والقراءة متعددة الزوايا تفتح أفق جديد يزيل هذا اللبس في الدلالة، ويتيح للقاريء الوقوف علي المعاني الحقيقية للكلام في الرسائل. فمن المهم لنا أن يكون الطرح للأشياء عادلاً وصائباً للتوصل إلى حكم حقيقى حينما يتعلق الأمر بسعد الخادم. تلك في نظرنا هي مهمتنا عند الإجابة علي السؤال اللغز؟

س : هل كان سعد الخادم شيوعيا لا دينى فى الفترة من 1936 إلى 1939؟.

دعني أتأمل المشهد الثقافي الأوروبي في الفترة الزمانية لبعثة سعد الخادم إلي مدرسة تشلسي Chelsea بلندن. والتي امتدت من عام 1936 م إلي عام 1939م، لكي نفهم المعني في نص الرسائل وحتي لا نقع في مغالات التأويل للكلمات المكتوبة، ويتم التحريف للتصورات والتمثيلات المتخيلة. فمن الخطورة عزل الكلمات ومفهومها عن سياقها التاريخي الذي ولدت فيه.

أعتقد أن الفلسفة الوجودية كانت الموضة المنتشرة كحركة ثقافية ، وخاصة بين الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وفي ظل هذا المناخ الفكري، ازدهرت موجة اليسار الماركسي بين الأدباء والفنانين باعتبارها دين جديد للشباب الطليعي الثائر في العالم. ولقد كانت كتابات ومنشورات “كارل ماركس” ملهمة ، وبخاصة عند الشباب الثوري المثالي الحالم بفكرة العدل والحرية.

صدمة الرحيل والبدايات فى الغرب ……………………………………

وقبل مناقشة الإشكالية بشكل موضوعى دعنا نتوقف عند الظروف النفسية التى مر بها سعد الخادم أثناء كتابة هذه الرسائل .. وعندما نسترجع المراسلات المتبادلة بين سعد الخادم وأخيه سمير نرصد الرسالة التالية فى 7 يونيو 1937م :

أخي الكبير .. سعدي
” … أما بالنسبة لك فأنا أري أنك حزين، أرجو أن يمر هذا الحزن مع الخريف.. .. لقد مررنا كلنا بهذا وخاصة السنة الأولي.. دائماً صعبة.. نفكر دائماً في أهلنا وبلدنا، ونتذكركل شيء بعيد! لكن انتبه.. بعد فترة نضع أنفسنا علي الطريق. لكن إحذر من العزلة، قابل كثير من الناس.. وحاول بشدة حتي لو لم تكن تريد ذلك. لكن أرجو أن تتحسن الأحوال مستقبلاً، وانعم بقدر أكبر من الهدوء والسكينة…” أخوك سمير
الافكار اليسارية الجديد عند سعد الخادم عام 1938م بين الحقيقة والخيال.
إذاً ظاهرة الصدام الحضاري في الفكر ، وحالة الزيغ التي تعتري الوافد الشرقي إلي أوروبا شيء بديهي وأمر طبيعي.

تطور الإشكالية عبر أربعة رسائل هامة وآفاق القراءة الموضوعية………………

اسمحوا لي أن أسوق إليكم أربعة نصوص من الرسائل التي تدل علي مدي تطور الإشكالية التي نتحدث عنها .. في الحوار بين سعد الخادم ووالدته نعمت هانم، وبينه وبين أخيه سمير، وصديقه فى مصر خليل درع.

نص (1) : وهي رسالة لخليل درع يناقشه فيها سعد الخادم فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية، التى يعتنقها.. والكتاب الذى يتحدث عنه خليل الذى أرسله له سعد ربما يكون الكتاب الشهير “مخطوطات ماركس الذي نشر في أوروبا عام 1930م.” وفي هذا الصدد يقول:

عزيزي سعد..
“أهديك أزكي تحياتي وتمنياتي بمناسبة عيد الفطر وبعد.. وصلني خطابك من مدة كما وصلني كتابك بعده ببضعة أيام. أما من جهة الخطاب فهو مملوء بالأفكار والآمال، وأما أخبارك الحديثة فلي عليها ملحوظة، وهي أنها متطرفة نوعاً ما، أو علي الأصح متطرفة جداً. فكيف تريد أن ترفع كل الناس في نظرك ويرتفع تبعاً لذلك درجة حبك لهم وثقتك بهم.. .. وكيف تنظر إلي العالم كله نظرة واحدة وتقول لأنه عندك جميع الناس سواء! إن هذا لا يمكن أن يسمي تفكيراً سليماً يصل بصاحبه إلي الهدف الذي يرمي إليه. هذه يا عزيزي بعض ملاحظاتي علي أفكارك الجديدة، أقولها بكل صراحة.. فإن أغضبك فأنت متطرف لا تريد أن تناقش أحد أو يناقشك أحد. وإن لم يغضبك وهو ما أعتقده فيك من سعة الصدر لمن ينتقدك. من جهة الكتاب فارسل لك رأيي فيه في خطاب آخر.
وأخيراً.. أرجو أن تعمل جهدك للحضور إلي مصر في الصيف لنراك ونتناقش في هذه الأفكار وغيرها.. كل عام وأنتم بخير، وفي انتظار الرد والسلام.”
خليل درع.

نص (2) :رسالة كتبتها نعمت هانم رداً علي سعد الخادم بتاريخ 14 يونيو 1937م.

عزيزي سعدي
” … أنت تفهم رسائلي خطأ. أنا لست مع الأفكار التي تدعو للتقليد الأعمي، وأنا لم أربيكم عليها.. وأنت تفهم ذلك جيداً.. حتي أنا نفسي لم أجبركم علي الصلاة طوال اليوم عندما كنتم أطفال، وخاصة مع سمير.. كان يصلي مرة واحدة فقط في الصباح. يجب أن يتعلم الطفل الإلتزام والإيمان من الصغر، لأن هذا يبقي ويدوم طوال عمره.. وكل شيء يأتي بالتعود.”

نص (3) :رسالة كتبتها نعمة هانم رداً على سعد الخادم بتاريخ 12 ديسمبر 1937م

عزيزي سعدي
“…أشكرك جداً علي رسالتك.. لقد أسعدتني وأراحتني كثيراً.. لقد كنت في السرير منذ عدة أيام غير قادرة علي النهوض، وكلماتك الجميلة التي أرسلتها هي التي أعطتني القوة والعزم. فأنا أشكرك يا سعدي علي السعادة التي تهبها لي.. .. لكن أرجوك لا تكلمني بهذا الجمود والخشونة، واتركني أستشعر بعض الحنان والعطف.. أقبلك بشدة.”
والدتك
ومن هنا يبدو واضحاً أن الأمر جدلى وأنه لا وجود لشيء حتمى وحقيقى وعليه هناك أفاق متعدد متداخلة للرؤية يمكن أن تقرأ في إطارها رسائل سعد الخادم، التي نرصد اثنتين منها علي النحو التالي:

أفق التفسير الأول: هل يمكن الجمع بين الماركسية والدين؟………………..

للحقيقة التاريخية .. لقد وضعت الماركسية فكرة الصراع الطبقي كمبدأ للوجود باعتباره النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة العاملة المقهورة، من أجل خلق فردوس أرضي.. أهم بكثير من الفردوس الذي في السماء. وكان لهذا الصراع درجات في تشدده تجاه فكرة الدين. فلم يكن في جوهره صراع ضد الظاهرة الدينية بشكل خاص، بقدر ما هو رفض لكل الظواهر التي تولد التقاليد الغيبية، والتي لا تلتزم بالواقع المادي وموضوعية القياس. فهو في نهاية الأمر صراع بين المادية وبين فكرة الغيب الميتافيزيقية. هذا الأفق الرحب في التأويل، هو ما أوجد ثغرة للماركسيين وخاصة في بلاد الشرق بالجمع بين الماركسية والدين.

أعرف مفكرين عرب وشرقيين معتنقين الفكر الماركسي المثالي العلماني، وهم لا ينكرون الدين باعتباره أضخم ميتافيزيقا عرفها التاريخ. لقد كان الحاج خالد محي الدين .. عضو بمجلس قيادة الثورة.. يسارياً متشدداً ؟ حتي لقد وصفه الرئيس جمال عبد الناصر بالصاغ الأحمر، في إشاره إلي توجهاته الماركسية. وهو الذى حصل علي جائزة لينين عام 1970م ، ومع ذلك عندما قابلته كانت سجادة الصلاة بجواره، وكان لا يترك فرضاً واحداً فى آخر أيام حياته رحمة الله عليه..
ما أريد أن أصل إليه .. أنه في كثير من الأحيان عند الشرقيين أن الماركسية لا تحل بمنتهي البساطة محل الدين هناك جدل وخصوصية فى الرؤية من الموقف الديني. لكن فكرة الثنائية في الرؤية مطروحة بمعنى اختيار أحد التوجهات لا يعني ترك الأخري. هذه الازدواجية الممكنة بين المتناقضات بين الدين والفكر الماركسى ربما لم تدخل في ذهن وعقل نعمت هانم، عندما أبلغها سعد الخادم باعتناقه للفكر “الإشتراكى” مثلاً.

ولعل رسالة سمير إلى سعد الخادم فى 7 فبراير 1938م تؤكد هذه الرؤية وتوضحها فى هذا الأمر .

عزيزى سعدى
” لماذا لاترد على رسالتى ؟ ولماذا مازلت مستمراً فى الكتابة بنفس النغمة للوالدة ؟ أن قلت لك أنها تتضايق من هذا الأسلوب ’ لأنها تأخذ الأمور على محمل سيئ , وتشكو طوال الوقت من أننا لا نحبها … لقد بذلت معها جهداً كبيراً لاقناعها أن ما تتصوره ليس صحيحاً , أرجو منك يا سعدى أن تكتب لكل شخص تبعاً لعقليته وظروفه , وأنت تعلم جيداً أن كل ما تحتاجه أمى هو المودة والحنان … حياتك مغلقة فى برج عاجى مع مثالياتك , شئ عظيم , فهذا يجعلك تتخطى كل القبح والمساوئ المحيطة بك فالفن هنا سيقود شخصيتك ..عليك أن تكون حريصاً وحذراً من الغرور , نتيجة العزلة … راعى نفسك جيداً وأكتب لى بسرعة .”
أقبلك .. سميـر.

أفق التفسير الثانى : حقيقة جدلية العلاقة بين الفن والإلحاد …………….

ظاهرة الفنان الملحد الحقيقي هي ظاهرة نادرة جداً، ويبدو أن الإنسان لا يمكنه أن يكون ملحداً ومادياً ومخلصاً حتي ولو أراد ذلك من كل قلبه. فهو في أغلب الأوقات لا يستطيع أن يعتنق منظورات مادية فجة وغير متسامحة بالمرة مع البعد الغيبي للإنسان.
وإذا كان الواقع يشير إلي وجود فنانين ملحدين لا دينيين إسمياً.. فإنه لا يتغير في الأمر شيء. وفي إطار تجارب أصدقاء علي مقربة منهم.. أن فترات الزيغ التي يلجأ إليها الإنسان في لحظة التيه والضياع الوجودي مؤقتة.. يعود بعدها أغلبهم إلي الخالق مع أول اختبار حقيقي عندما يصطدم بمشاكل نوعية .. مثل فقد العزيز أو العجز أو المرض. وأمام محدودية القدرة الإنسانية.. حينها يقول الإنسان عندما تنغلق أمامه جميع الحلول “يا رب”. وسأذكر هنا جزء من رسالة تؤكد أن عملية الجدل الفكرى حول فكرة الإنسان اللادينى لم تتحول إلى شيء يقينى فى وجدان سعد الخادم بدليل أن آخر رسالة من نعمة هانم إليه قبل انتهاء البعثة فى 20 يناير 1939م كانت تطلب منه الصلاة والدعاء لجده “على باشا ذو الفقار” رحمة الله عليه فتقول :

عزيزي سعدي
” … بالتأكيد عرفت من الصحف خبر وفاة جدك.. لا داعي لأصف مدي الألم الذي أشعر به. أرجوك صلي وادعو له.. لقد كان يحبك جداً، وكان يكرر لي دائماً أنك الوحيد الذي يحبه. وكم كان سعيداً بخطاباتك التي ترسلها له في الأعياد. ويجب أن ترتدي كرافات سوداء.. .. أقبلك بحنان.” والدتك .

وبعيداً عن هذا الجدل، فالفنان الذي يشجب الدين باعتباره ضباباً صوفياً، أو نوعاً من الهرطقات لا يمكن أن يبدع في بعد إنساني واحد.
العمل الفني الحقيقي سر مكنون داخل المادة ، وهو يملك معني روحي. وجوهر هذا العمل هو عملية الجدل بين المرئي و اللامرئي .. الظاهر والباطن لتحقيق معني إنساني. والفنان الذي يبحث عن هذا المعني الروحي يبحث عما هو مفارق. سمه ما شئت الميتافيزيقا .. روح الكون .. لكن في نهاية الأمر هو الله.

وأخيراً : الزمن الجميل ورائحة الذكريات .. مع سعد الخادم………….

ها هى الذاكرة التى تستدير على نفسها تجاه هذا العالم الجليل سعد الخادم , لتسترجع بعض ما مضى من ذكريات وحكايات لها مغزى ومعنى فى هذا الإشكالية وما تزال تبعث فى النفس نوعاً من البهجة وأثراً طيباً فى الوعى.

الحكاية الأولى : الكاتب الشيوعى .. ومسرحية حفلة فى الزريبة…………..

لا أزال أذكر .. في ذات مرة عام 1983 سألت الأستاذ سعد الخادم .. هل تكتب مسرحيات؟ فرد قائلاً: لماذا؟ أجبت عليه لأنني بالأمس كنت في دار الكتب والوثائق القومية علي كورنيش النيل ، ولما بحثت في كروت الفهرس عن إسم سعد الخادم كمؤلف رأيت مسرحيتين بإسمك .. الأولي اسمها ” حفلة في الزريبة “، والثانية لا أتذكر اسمها الآن فى ذهنى .. واستطردت في القول وأنا أشك فيك .. فقاموس اللغة لإسم المسرحيتين هو من اللغة العامية الخشنة التي تتحفنا بها يومياً. والمصيبة أنه مكتوب علي الكارت.. الكاتب الشيوعي سعد الخادم!
ابتسم الرجل وانفرجت أساريره، وهو نادراً ما يبتهج .. نادي علي الدكتور سليمان رحمة الله عليه وقال لي: أذكر له اسم المسرحيتين! وانفجرنا في الضحك وبالقطع نفى أن يكون له أى علاقة بالكتابة المسرحية أو بالكاتب الشيوعى صاحب المسرحيتين .

الحكاية الثانية : العمرة الحجازية .. سعد الخادم فى مكة المكرمة……………

لا أنسى هذا المشهد .. في بداية الثمانينات عندما دعي سعد الخادم كأستاذ زائر إلي مركز أبحاث الحج، التابعة لجامعة أم القري بمكة المكرمة.. لا أنسي ذلك اليوم بعد عودته عندما جاء مبكراً في الصباح قبل دخول الطلبة المحاضرة .. وبدأ في الحديث بشغف معى عن تجربته في أداء العمرة بمساعدة المرحوم الدكتور ثروت حجازي . والله ما رأيت وجه سعد الخادم من قبل وهو بهذا الصفاء والوداعة وكل هذا البهاء ذلك هيئ لي أن النور يشرق من جبينه، وبدأت الدموع تترقرق في عينيه عندما بدأ يحكي عن رؤيته للكعبة.. والطواف والشرب من ماء زمزم.. أقول هذا الآن لأنها من اللحظات الأثيرة عندى ومن المواقف العزيزة على الذاكرة التي كشفت الغطاء عن المياة الغيبية للتوحيد التي تجري في روح هذا الإنسان.

وفى النهاية .. إذا كنت منتظر الإجابة على السؤال الإشكالية الذى طرحناه فى البدابة.

س: هل اعتنق الفكر الوجودي أو الماركسى اللا ديني أثناء البعثة في لندن عام 1937؟

عليك قراءة النصوص والحكايات مرة أخرى فى ظل قراءة طباقية متداخلة الآفاق ولسوف تهبط عليك الإجابة الصحيحة فى قلبك بدون مقدمات.

وأخيراً .. سعد الخادم كان مفكراً حياً وكان ضميراً لهذا الوطن صنع معرفة جديدة وأنتج تلاميذه إحساس جديد في الإبداع .. خاض أصعب المعارك مع الذات. كان
محرضاً علي الأفكار, وأفكار سعد الخادم إنسانية روحانية سرمدية لا تموت.

دكتور : رضــا شـــحاته أبوالمجـــد. “كاتب وباحث أكاديمى من مصـــر.”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة (1) :اللوحة المصاحبة لنص الرسالة للفنان : د . رضا شحاته .. أقمشة وخيوط .. خيامية أنتجت عام .. 2003.

ملحوظة (2) : نصوص الرسائل الواردة فى هذا النص مصدرها الكتاب الوثائقي والمعنون باسم “الفنان سعد الخادم أرستقراطي شعبي الهوى” والصادر عن دار نشر الثقافة ، محرم بك، الإسكندرية ، 2015م. للكاتب يسرى القويضى له جزيل الشكر.

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

شيلدون أديلسون: إمبراطور القمار و”صانع الملوك” الذي نقل سفارة أمريكا إلى القدس

التعليقات على شيلدون أديلسون: إمبراطور القمار و”صانع الملوك” الذي نقل سفارة أمريكا إلى القدس مغلقة

حسن غريب يكتب: أهم الملامح الفنية والجمالية في ديوان (بدون تصريح ) للشاعرة إيمان معاذ

التعليقات على حسن غريب يكتب: أهم الملامح الفنية والجمالية في ديوان (بدون تصريح ) للشاعرة إيمان معاذ مغلقة

د. إيناس عبد الدايم فى نعيها للدكتور يسري العزب: من أهم مبدعي شعر العامية وحبيب أدباء الأقاليم

التعليقات على د. إيناس عبد الدايم فى نعيها للدكتور يسري العزب: من أهم مبدعي شعر العامية وحبيب أدباء الأقاليم مغلقة

تكريم جبريل وسيد خطاب وابو بكر يوسف فى مؤتمر أدباء القاهرة الكبرى

التعليقات على تكريم جبريل وسيد خطاب وابو بكر يوسف فى مؤتمر أدباء القاهرة الكبرى مغلقة

دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات

التعليقات على دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات مغلقة

الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة” للدكتور محمود الضبع

التعليقات على الشعر المعاصر وآليات التلقي “دراسة” للدكتور محمود الضبع مغلقة

دكتور رضا شحاته يكتب الرسالة (4) : الكنز المجهول .. مشروع سعد الخادم فى التراث الشعبي المصرى

التعليقات على دكتور رضا شحاته يكتب الرسالة (4) : الكنز المجهول .. مشروع سعد الخادم فى التراث الشعبي المصرى مغلقة

تأبين الروائي الراحل صبري موسى بقاعة كاتب وكتاب شهدت قاعة كاتب وكتاب

التعليقات على تأبين الروائي الراحل صبري موسى بقاعة كاتب وكتاب شهدت قاعة كاتب وكتاب مغلقة

بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع

التعليقات على بالفيديو.. مفهوم الرواية الجديدة فى الوعي النقدي العربي للدكتور محمود الضبع مغلقة

الرسالة (3) : د. رضا شحاتة يكتب: المرئي واللامرئي .. فى بيت سعد الخادم .

التعليقات على الرسالة (3) : د. رضا شحاتة يكتب: المرئي واللامرئي .. فى بيت سعد الخادم . مغلقة

  تعليم الفن فى مصر والتيارات الموازية

التعليقات على   تعليم الفن فى مصر والتيارات الموازية مغلقة

محمد عطية محمود يكتب: نجيب محفوظ.. بين الفلسفة والتصوف .. “دراسة”

التعليقات على محمد عطية محمود يكتب: نجيب محفوظ.. بين الفلسفة والتصوف .. “دراسة” مغلقة

Create Account



Log In Your Account