د.رضا شحاته يكتب الرسالة “6”: الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم

د.رضا شحاته يكتب  الرسالة “6”:  الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم

د.رضا شحاته يكتب الرسالة “6”: الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم

التعليقات على د.رضا شحاته يكتب الرسالة “6”: الأم .. والفكر الأصولى .. فى حياة سعد الخادم مغلقة

فى البداية لا أستطيع تحديد دافع خاص كان وراء الكتابة عن نعمت هانم ذو الفقار والدة سعد الخادم . ولكن الشيء الوحيد الذى أستطيع تأكيده هو أن غواية الكشف عن الأسرار فى الرسائل التى تركها سعد الخادم بعد وفاته , وشوق الحفر فى رواسب الماضى والتاريخ عبر قراءة الوقائع والأحداث الشخصية , هو ما دفعنى للكتابة وجعلنى أقع فى محبة هذه الست المصرية الأصيلة التى أنجبت لنا هذا الإنسان .. وفجرت له فى رسائلها قضايا إشكالية وأسئلة سكنت وجدانه , مر عليها ثمانون عاماُ وما تزال إلى الآن مفتوحة تنتظر الإجابة عليها.

ومن النصوص الإنسانية العظيمة في تاريخ البشرية هو جملة “الجنة تحت أقدام الأمهات”. فالأم هي أيقونة العطاء بلا مقابل، وهي نهر الحنان الذي لا ينضب. ومن الجمل الأثيرة عن الأمهات “كل البيوت مظلمة إلي أن تستيقظ الأم .. وفى الأمثال المصرية ” ادعي على ابني واكره اللي يقول آمين”

أود فى البداية أنا أعتَرِفْ لكم : ………………………………………………………

أعترف الآن (1) : أننى فى صباى كنت مغرم مثل كمال عبد الجواد فى رواية بين القصرين بعايدة شداد الأرستقراطية التى تخالفه بالانتماء الطبقى ومع ذلك كنت أكره غطرسة طبقة النبلاء وأرباب الثراء من الكلام العابر فى الروايات فأنا من جيل لم يعرف الطبقة العليا إلا من خلال رواية رد قلبى للكاتب إحسان عبد القدوس أو من خلال فيلم الأيدى الناعمة عن مسرحية للكاتب توفيق الحكيم. واليوم من الأمانة القول أننى غيرت رأى فتصورى كان خطأ . فالأم “نعمت هانم” هذه المصرية الأرسقراطية وبعد قراءة كل رسائلها فى اعتقادى لا تقل فى تضحيتها عن “بيلاجيا تيلوفنا” بطلة رواية الأم للروسى مكسيم غوركى.

أعترف الآن (2) : أن القراءة للرسائل الخاصة لنعمت هانم ليست محايدة بل هى قراءة متحيزة إنتقائية قامت على إختيار بعض المقاطع , وتركت البعض الأخر الخاص جداً , لأنها لا يمكن أن تكون موضع للحكى أو النشر على العامة. وأنا لست مغرماً بهذا النوع من البوح فالكتابات الشخصية جزء من الحياة الخاصة يجب استئذان صاحبها قبل أن تنشر.

أعترف الآن (3) : بعدالة الطرح للحقيقة. فمن الأمانة العلمية أننى أبحث فى ظلال السرد المرافق للوقائع المروية برسائل نعمت هانم . عن قراءة جديدة تحاول إستنطاق معنى ما كان له معنى فقط بدون تأويل . فأنا لا أعتزم يا صديقى أن ألقنك درساُ فى التفسير والتحليل النفسى. !
وبعد هذا ما أطمح إليه من هذه الاعترافات هو توضيح الطريقة التى أحاول بها قراءة الهوية لمرحلة من مراحل حياة ” سعدى” وهو إسم التدليل الذى اختارته الأم نعمت هانم لابنها سعد الخادم.

من هى نعمت الله ذو الفقار الملاك المجهول ؟ ……………………………………….

الأم نعمت الله هانم ذو الفقار التي سنتحدث عنها هنا هي والدة سعد الخادم ومعلمته الحقيقية في الحياة. والدها هو علي باشا ذو الفقار حكمدار القاهرة في عهد الملك فؤاد، وله شارع بإسمه حيث يقطن بمنطقة عابدين بالقاهرة. وينحدر نسل علي باشا من الأميرلاي يوسف بك رسمي التركي الأصل الذي تولي قيادة الجيش المصري في عهد محمد علي لمساعدة تركيا في حربها مع روسيا. وسمي لجسارته وشجاعته باسم ذو الفقار نظراً لتشابه سيفه ذو النصلين بسيف الإمام علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأصبحت تلك الصفة لقباً للعائلة احتفظت به من بعده وما هو جدير بالذكر أن والدة سعد الخادم نعمت هانم هى خالة الملكة فريدة ” صافيناز ” الزوجة الأولى للملك فاروق.

لعبت السيدة نعمت هانم دوراً هاماً في تكوين شخصية سعد الخادم، ورسم معالمها بعد وفاة والده وهو في سن الرابعة عشر. وهذا أمر منطقى وواقعى , لقد كانت المدخلات والوقائع التي بلورت شخصية سعد الخادم فى شبابه مبهمة، وخاصة علاقته بوالدته وأسرته كانت خفية لا مرئية لا نعلم عنها شيئاً. ولذلك إحدي فضائل نشر الخطابات المتبادلة بين سعد الخادم وأسرته في الفترة من عام 1936 إلي عام 1939″ أثناء بعثته بلندن والتى قام بنشرها السفير يسرى القويضى “*” أنها كشفت لنا الغطاء عن التقاطعات الفكرية والاجتماعية المؤثرة في فكر سعد الخادم، الذى نشأ في كنف عائلة وطنية عريقة للأم، العلاقات بين أفرادها قائمة علي الاحترام المتبادل في ظل تقاليد صارمة يحافظ عليها الكبار. ويلتزم بها الصغار بالعائلة , وفي هذا الصدد ننشر واحدة من هذه الرسائل للجد علي باشا ذو الفقار بلغته العربية الرصينة رداً علي خطاب سعد الخادم الذى أرسله له وهذا نصها :

عزيزي سعدى ..
وصلتني رسالتك المؤرخة 14 من هذا الشهر والتي قدمت التهنئة بمناسبة الأعياد، وأشكرك شكراً جزيلاً، وأتمني لك أيضاً أطيب الأمنيات… كنا نتمني أن تكتمل سعادتنا لولا الحزن الذي تعرضنا له بسبب وفاة جدتك التي رحلت يوم السبت 5 ديسمبر، وبما أن الموت حق علي كل كائن حي، فقد تقبلنا الأمر باحتساب، راجين أن يمنحنا الله الصبر والسلوان لتحمل هذه الفجيعة. نحن حالياً في القاهرة حيث سنقضي بعض الوقت، راجين أن نراك في أتم صحة ومحققاً تقدماً في دراستك. وأنا واثق تمام الثقة أنك ستكون علي قدر المسئولية لتحقيق الفخر لأسرتك وبلدك.” جدك المخلص دائماً “علي ذو الفقار”

منابع الضوء .. فى شخصية سعد الخادم الفكرية والروحية …………………………………………

يقول محمود درويش : أحنّ إلى خبز أمي. و قهوة أمي. و لمسة أمي. و تكبر في الطفولة. يوما على صدر يوم. و أعشق عمري لأني. إذا متّ،. أخجل من دمع أمي !.
وإذا أردنا أن نعرف من أين أتت المياه الغيبية التى تجري فى وجدان وعقل الطفل سعد الخادم علينا أن نتوقف عند الأم نعمت هانم ذو الفقار، لنعرف مدي تأثيرها علي التكوين الفكري لسعدى .. إذاً نقرأ النصوص التالية لندرك أن نعمت هانم لم تكن أماً بيولوجية بالمرة، ولكنها كانت ذواتاً فوق مادية .. روحاً هائمة منحت ابنها الطمأنينة وقبساً من النور والشفافية. لقد كانت مؤثرة عليه بدرجة كبيرة، وهي الأم المثقفة الأرسقراطية التى تتحدث الفرنسية , والتي تمتلك رؤية ثاقبة في الفن والحياة. استمع إليها في جزء من الرسالة الأولى وهي تحث سعد الخادم على فكرة التأمل والرؤية في انطباع شروق الشمس “Soleil levent “وانكسار الضوء علي قلعة الجبل بالقاهرة، وهي تذكرنا بانطباعية “Impessionism ” كلود مونيه, في سلسلة التصوير الرائعة بالنور لكتدرائية “روان”.

رسالة (1) : عزيزى سعدى ..
” … استيقظ يومياً قبل شروق الشمس، وأري أمامي جبل المقطم، مشهد جميل وساحر، وكذلك منظر القلعة بألوانها الرائعة التي تتغير مع تغير انعكاس أشعة الشمس عليها. أ فكر فيك كل صباح مع مشاهدتي هذا الجمال الساحر، فأنت أول ما أفكر فيه … وأنت متي تفكر في؟ ” بتاريخ 20 نوفمبر 1936م
وفى الرسالة الثانية كانت نعمت هانم تمنح سعد الخادم النصيحة وتضع له أسس وتوجهات التصور والرؤية المستقبلية في الدراسة والفن. التي يجب أن ينميها الإنسان لذاته وللعالم من حوله، وترشده إلي التميزات والعلاقات التي يجب أن يقيمها بينه وبين الآخر،

رسالة (2) : عزيزي سعدي
“… اجعل كل دراساتك عن الشرق. سوف تستشعر مدي الفخر لخدمة الشرق وليس الغرب. أتركك الآن يا عزيزي سعدي متمنية أن أجد فيك الرجل الحازم القوي، فلا يذل الرجل إلا ضعفه، وحاول دائماً أن يكون لك أفكارك الخاصة بك ولا تنقل أو تقلد أحد، فالله منحك عقلاً لتميز بين الجيد والرديء، وليس للتقليد كالخراف. إختار الجيد من كل شي حولك، وطوعه برؤيتك الخاصة، وكل هذا لصالح بلدك في النهاية…” أقبلك بحرارة، وأتمني لك الصحة والعافية. والدتك. بتاريخ 24مايو1937
وفي الرسالة الثالثة تحضه نعمت هانم علي القراءة وتدفعه إلي زيارة المتاحف، لتنمية حاسة التذوق والقدرة على النقد

رسالة (3) : عزيزى سعدى.
“… ولكي تحفز خيالك علي الانطلاق، الشيء الوحيد الذي عليك أن تفعله هو القراءة “اقرأ كتب جيدة ” وكذلك المشاهدة، وليس هناك فنان حق يجلس وحيداً في غرفته، بل يسافر كثيراً، يزور متاحف.. معارض.. ليس فقط لتقليدها، بل لتنمية ذوقه وإصلاح عيوبه الخاصة به. فلكي تنقد فناناً وتجيد الحكم عليه يجب أن تعتاد عينيك علي مشاهدة ورؤية الجيد والرديء من الأعمال، حتي تستطيع فيما بعد أن تحكم من النظرة الأولي، وهذا تثقيف العين…” 21 أغسطس 1938م

نعمت هانم والبحث عن الذات مع هؤلاء السلفيون : ………………………………

خطابات نعمت الله إلى إبنها سعد الخادم فى باريس تثير بشكل أو بآخر عدد من القضايا الهامة فى الفن والحياة . وفى واحدٍ من خطاباتها المكتوبة فى إسطنبول عام 1938 تفجر إشكالية منذ ثمانين سنة مازال صداها يتردد فى واقع حركة التشكيل المصرية الذى يموج بالعديد من التيارات الفكرية .. فهى تطرح قضية البحث عن الأصل ومشكلة الاختيار بين النموذج الغربى فى الإبداع وبين النموذج التراثى , ومما يدعو للرثاء , فهى تضعنا أمام هذا الإنشطار المعرفى الذى يتنافس عليه ويتصارع تياران أصوليان الأول فريق يتمسك بالأصولية الحداثية الغربية , وفريق يدعو إلى الأصولية التراثية العربية بوصف أنها يمكن أن تقدم نموذجاً بديلاً وأصيلاً فى عملية الإبداع.
البحث عن صورة طبق الأصل.!!

هؤلاء السلفيون وهذا التفكير الأصولى فى الإبداع يرى الحل لإشكالياته فى اتباع أصل ما أو نموذج معرفى يهتدى إليه.. فالأصولية عادة ما تقدم نفسها بوصفها نموذج وحيد للتقدم.
وفى إطار عملية بناء الوعى بين الماضى والحاضر التى تبثها رسالة نعمت هانم إلى سعد الخادم ,علينا ان ندقق كثيراً حين نحاول أن نحدد قضية الصراع بين الشرق والغرب وخصوصية الثقافة الشرقية التى تركز فيها على جملة من المعطيات تجعل التراث فى وعينا يمكنه أن يتقبل متغيرات العصر ومن ثم فهى لا ترفض كل المظاهر الحداثية .

رسالة رائعة من ثمانين سنة للمثقفة نعمت هانم ذو الفقار. …………………………..

وبعد فهذه رسالة .. مترجمة عن الفرنسية .. كتبت من تركيا فى 4 يونيو 1938 ومن المفيد عند قراءتها , بل ربما من الضرورى التعامل معها بأعتبارها مجموعة من المقدمات أو المؤشرات , تحدد صورة التفكير العربى فى تلك المرحلة الزمانيه فهيا بنا نقرأ :

عزيزى .. سعدى.
” … أرسل لك طيه قصاصة من جريدة … شخص يكرر كلمة بكلمة كل ما قلته فى إسطنبول مع هؤلاء الأغبياء الذين يريدون أن يحولوا كل شيء إلى أوربى ” أوربة ” لماذا لا نطور عاداتنا الجميلة ,لكن مع الاحتفاظ بها وبهويتها ؟ لماذا نقلد تقليداً أعمى مثل القرود الأوربيين فى عادتهم السيئة , ولا نختار العادات السليمة ؟
بتقليدهم نشعرهم أنهم أفضل منا وأعلى منا هذا حقاً مهين … فلا عجب بعد ذلك أن يحتقروا الشرقيين وخاصة إذا كنا أنفسنا كشرقيين نرى أن الأفضل دائماً هو ” الفرنجة ” وأن أي شئ شرقي سيئى. وهنا أنا انفعلت بشدة ضد المصريين وكذلك الأتراك الذين لهم أفق ضيق بلا أى ابتكار سوى التقليد مثل القرود ..
لا تتخيل كم كنت سعيدة بانى وجدت شخص يشاركنى نفس الأفكار ولو وجدت فرصة سانحة لأردت أن أحييه وأشكره. نحن نفقد فننا وهويتنا بتقليد الفن الأوربى ، أنا لا أقول أنه سئ أو رديئ , لكننا نريد أن نحافظ على نقائنا… لدينا أيضا خصال سيئة لماذا لا نحسن السئ ؟ ونحافظ ونصون عاداتنا الجيدة . أنا أرى أن ما يحدث شئ أحمق لأننا يجب أن نتمشى مع التطور والحداثة ونسعى للتعلم والتحضر بدون فقد الهوية الشرقية الأصيلة . فكل شخص له شخصيته المستقلة … ما الفائدة التى تعود على الإنسان من التقليد المتقن ؟ فالقرد يجيد التقليد أيضاً , بل ربما أفضل كذلك .
ما الفائدة إذا كان العالم كله نسخة واحدة كالمطبوعة آلياً تطبع ملايين النسخ المتطابقة ؟ نفس العادات نفس التقاليد نفس الفن نفس الأفكار , نفس الموسيقى …الخ.
أنا أرى أنها مهزلة … لم أجد سوى هذا الرجل المحترم والذى لا أعرفه هو الذى استطاع أن يفهم ويعى أفكارى وتوصل إلى نفس الحكم .
وأنا سائرة فى الشارع أرى كل السيدات متشابهات .. . وكذلك التسريحة كلها متشابهة سواء تلائمهن أم لا … الكل يعملها وهى الموضة الأوربية فيجب علينا أن نعملها نحن. من رأيى ليس تحضراً بل هو تخدير للعقل الذى بدوره سيتوقف عن أى إبتكار فيما بعد. لقد فاض الكيل, عندما يقرر الأوربى محدود الفكر أن الشرقى بلغ قمة التحضر عندما يقلد كل ما هو أوربى. أما أنا فأرى العكس تماماً ولا يسعنى سوى احتقار هذه الأفكار المتخلفة … اقتباس عادة جيدة من جارى لا يعنى ضياع عاداتى الخاصة بى , يبدو أنها صعبة الفهم على الكثيرين من محدودى الفكر والأفق , الذين ليس لديهم أى ملكة سوى التقليد كالقرود , والقليل جداً منهم فقط يتعامل مع الأمور بعقلانية. عندنا فى مصر الآن يعتقدون أنه للتمسك بالشرقية وبالديانة الإسلامية عليهم أن يتزوجوا أربعة سيدات ويلبسوهن الطرح ويجب أن يأكلوا بأيديهم … وهنا تكمن المشكلة .. عدم الفهم والجهل … ! يجب أن يتواجد شخص مستنير يقودهم ويفهمهم التعاليم الصحيحة للإسلام .
أتمنى من كل قلبى أن تصبحوا رجالاً مثقفين ومستنيرين قادرين على إرشاد محدودى الأفق والجهلة , فتكونوا بذلك نافعين لبلدكم وترفعوها لأعلى المراتب , وإعادة المجد الشرقى , وإجبار الغربيين على احترام حضارتنا كى لا تنسوا أننا نحن الأفضل , والأعلى وعليهم تقليدنا. أقبلك بحنان , طلبت منك أكثر من مرة أن تحكى لى عن حياتك ولم أتلق رد . أريد صورتك وأرى وزنك , وأبلغنى إذا احتجت للمال.” والدتك

ظلال الأصولية فى خطاب نعمت هانم …………………………………………………………….

وبعيداً عن الفكر الإنتقائى والتوفيقى ترصد هذه السيدة فكرة العقل الأصولى الذى يكرس مبدأ النقل لا الإبداع أو تقليد الأشكال والتجارب المستنسخة ويمكن أن نتجاوز خطاب نعمت هانم هنا ونقوم بتصنيف الفكر الأصولى من واقع الحقل المعرفى للحركة التشكيلية العربية وذلك على النحو التالى :

(1) : فكرأصولي راديكالى تراثى يتهم بالجمود والرجعية يتبنى خطاب تقليدى يسقط الزمن وحركة التاريخ لصالح نماذج إنتقائية من الماضى يجب أن نخلص لها, وهو لا يؤمن بالنمو للأفكار والأشكال أو التأويل او التعديل لها . نحن إذاً أمام قراءة بصرية قائمة على الحفظ والتضمين والتقليد للمعارف الجاهزة , وهذه القراءة تؤمن فقط بمفهوم الثبات لإرث الأجداد , ولا تتردد فى الدفاع عنه لدرجة المصادمة والعنف مع الآخر.

(2) : فكرأصولي ليبرالى حداثى يتهم بالتغريب والتنكر للقيم والهوية الوطنية.
ويتبنى خطاب أصولي متعصب للحداثة الغربية فى الفنون , ولا أقول حداثة معاصرة لأنها تاتى ألينا بعد أن تكون قد دخلت إصطلاحات القواميس التاريخية , وأصبحت جزء من تراث الماضى. الغربى تفرض نفسها كالمنقذ والمخلص من التخلف والضلال المعرفى . وانتهى هذه الخطاب البصرى إلى قهرنا وإخضاعنا معرفياً وجمالياً إلى ثقافة الآخر تحت غطاء العولمة والكونية ونهاية التاريخ لحساب المركزية الغربية الأمريكية وهذه القراءة الأصولية ما من شك هى إجابات مرعبة على فكرة التحديث فهى قراءة نرجسية مريضة بالنسيان للماضى وتريد رؤية ملامحها فى تجربة الآخر الغربى. ومن ثم فهذه القراءة المتعصبة تنادى بالقطيعة مع التراث الفنى والتعامل معه كشكل من الرواسب التاريخية المتكلسة , وعليه يجب إزاحة هذا الموروث لصالح المعرفة الغربية الجديدة.

قضية الهروب الكبيرمن الواقع فى التيار الأصولى ………………………………………………..

وبعيداً عن خطاب نعمت هانم الذى لايمكنه أن يتحمل هذه الرؤية أيضاً سنتوقف عند أهم أخطار التيار الأصولى فى حركة التشكيل العربية والتى يمكن أن نجملها وذلك على النحو التالى :

(1) : لقد تحولت الأصولية إلى منهج للهروب من مواجهة الحياة الحقيقية. وخطورة هذه الذهنيات الأصولية أنها تهدر ظروف الواقع وتراه دائماً فى مكاناً آخر من الزمن , وعليه تتجاهل الحاضر الحى. أما بالاتجاه إلى الماضى أو بالاتجاه نحو المستقبل الغربى الموهوم.

(2) : مما لا شك فيه أنه فى مكاناً ما من هذا المفهوم الأصولي تكمن بذور العنف الرمزى فى العقل بين الطرفين فالتيارين الأصوليين السابقين كلاهما يتصف بالجمود والتطرف ,ولا يمكن أن يتعايشا بدون عنف. فهما لا يمتزجان ولا يمكن أن يحدث بينهما هجنة. وإذا امتزجا لا ينجم من الخلط بينهما إلا فكر يهدد هوية الشخص وثقافتة وقيم الحضارة التقليدية.

(3) : المشكلة التى تواجهنا مع الفكر الأصولى ليس مشكل أن نختار بين أحد النموذجين , ولا مشكل أن نوفق بينهما المشكلة التى نعانى منها الآن هى مشكلة الازدواجية فى المفاهيم وحالة الأضطراب التى تضرب حقل الفنون التشكيلية العربى. وهكذا نجد أنفسنا أمام كتلة كبيرة من المجتمع غير مندمجة معنا وغير مدجنة , هى خارج هذا الصراع الفكرى , تعيش فى الواقع وهى خارج التاريخ لحركة التشكيل فى مصر بعيداً عن هيمنة سلطة الخطاب الأصولى.

(4) : الأصولية هى ظاهرة غربية فى المقام الأول ومن المسلم به أن الأصوليات فى الشرق هى ردة فعل مقاومة أو مستسلمة للأصوليات الغربية. ونحن هنا أمام تيارين من الأصولية كل منهما يعيش داخل تراثه الخاص بحيث يعيش تجربة الحياة بدون أن يسمح بقيام أية مسافة أو تراجع ضرورى لتمثيل الذات المبدعة.أو إتاحة الفرصة للنمو أمام القوى الحية التى تدفعنا باتجاه المستقيل.

وفى نهاية الأمر:
تحولت حركة التشكيل العربية المعاصرة إلى حركة مغلقة “جيتو” جديد يخاطب فيه بعضنا البعض يا صديقى نحن متخلفون أصوليون عكس ما نعتقد بالرغم من وجود عقول راجحة من الكبار والشباب , لأننا حفظة لكل ما يأتينا نبحث لكل شئ عن أصل فى المعارف الحديثة أو القديمة . نحن ندخل المعارض الفنية باحثين عن التشابهات والتأثيرات , ونتيجة لإساءة الفهم للواقع .. فإن حركة التشكيل وتاريخ الفن العالمى فى هذا القرن يكتب , وليس لنا إسهام معرفى واحد إلى الآن فيه.

وبعد هذا الكلام الذى يدعو للحزن والغضب………………………………………..

اسمحوا لي من الآن فصاعداً أن نترك سعد الخادم الأستاذ ونقرأ سعد الخادم التلميذ وأن أتحايل علي فرصة الكتابة عنه وأقوم بالإنصات معكم إلي مقتطفات من كتابات هذه الأم التى تفرض بها وصايتها عليه ، تنشر فيها العطر والمعرفة بفن الحياة. وها أنا أقتبس مجموعة من الفقرات كانت تضمنها عفت هانم في ثنايا رسائلها إلي سعد الخادم علي هيئة وصايا إنسانية مشوبة بالعاطفة. والعجيب في الأمر أنه بالرغم من مرور ثمانون عاماً علي هذه الوصايا، أيضاً ما زالت نابضة بالمعني وما تزال إشكالياتها حية ومفتوحة علي الحياة الآن.
والآن أسوق لكم مجموعة من الوصايا لنعمت هانم، التى تصنع شبكة من الهيمنة علي شخصية سعد الخادم ووجدانه.

الوصايا العشره لنعمت هانم ذو الفقار إلى سعد الخادم ……………………………..

وصية (1) : عزيزي سعدي … فكر جيداً واطلب المشورة من أناس يتمتعون بالخبرة والحكمة أكثر منك، واحرص علي كتابة خطابات مطولة، وابعد عن الجمل المختصرة المبتورة. أقبلك بحنان علي خديك.. إحتفظ بالجريدة ولا ترميها.. والدتك ” 23 أكتوبر 1937

وصية (2) : عزيزي سعدي … لقد أحزنني كثيراً أن تتبسط وتخاطب خالك بالقول خالي العزيز .. لا يعجبني إطلاقاً ما تفعله يا سعدي، أنت تعرف جيداً أني لا أتحمل شيئاً يمسه، وإخلاصي له لا حدود له. إخوتك يقبلونك، وأنا أقبلك بحرارة وحنان.. والدتك ” 5 أغسطس 1938

وصية (3) : عزيزى سعدى … كيف حال رفيقك، لا تهجره إذا كان معذوراً، حاول أن تساعده ولو كان مريضاً كذلك، وحاول أن تندمج في الحياة هناك… والدتك” 7 مايو 1936.م

وصية (4) : عزيزى ســـعدى … إذا كنت تريد أن تسعدني فعليك بشرب “Emulation” باستمرار أثناء فصل الشتاء، وهناك أيضاً كبسولات “”Davis, Haliveral,parke لكني أفضل “Emution” فهو أحسنهم .. والدتك ” 22 نوفمبر 1936م

وصية (5) : عزيزي سعدي … أنا خائفة جداً يا سعدي من أن تتعود علي التدخين لأني رأيت مجموعة الصور التي أرسلتها لحسن، وهذا أحزنني كثيراً، فبدلاً من أن توظف أموالك في أشياء نافعة وتفكر فى والدتك، تستخدمها في حرق شوية ورق، هذا سيكون كارثة إذا كان ظني حقيقي… والدتك ” 29 مارس 1937م

وصية (6) : عزيزي سعدي …إحرص علي شراء شرابات من الصوف، أنت لم تقل لي أبداً كيف تتحمل البرودة؟ وما أخبار الإلفلونزا عندك؟ أرجو أن تداويها جيداً حتي تقضي عليها، ولا تتركها تتمكن منك… ولدتك ” 29نوفمبر 1936 م الجيزة.

وصية (7) : عزيزي سعدي “… أتركك الآن عزيزي سعدي.. راعي ضميرك دائماً قبل أي تحرك، وإذا وجدت أي مشاكل عليك بالابتعاد، وتعامل دائماً بوضوح وصراحة، أقبلك بحنان.. والدتك.” 12مارس 1939م

وصية (8) : عزيزي سعدي … أنا أنتقدك لأنك إبني وأريدك أن تكون أفضل من الجميع، لذلك أكرر عليك. أخرج كثيراً، شاهد كثيراً، جرب مرة أن تخرج في الهواء الطلق للرسم، وستجد أن إنتاجك سيكون مائة مرة أفضل، وسيتطور عملك إلي الأفضل، فعندما تجد نفسك في حضن الطبيعة تتنسم الهواء النقي، هذا بدوره سيوسع إدراكك وخيالك بسبب ما تراه وتسمعه.حاول إذاً في الأعوام المتبقية أن تستفيد بقدر ما تستطيع ، وأن تغير النمط التقليدي الذي لن يمنحك أي فرصة للتطور والترقي .. والدتك ” 21 أغسطس 1938م

وصية (9) : عزيزي سعدى … لم تصلني أي أخبار عن مصر منذ قدومي إلي هنا، لا أعلم ما الذي يجري من أحداث هناك، يجب أن تقرأ الصحف العربية حتي لا تنسي ممارسة القراءة بصفة عامة، ولتعرف أخبار بلدك بصفة خاصة. أقبلك وأتمني أن تتصرف بعقلانية، وتفهم الحياة بطريقة حكيمة، واعلم أنك كلما تكبر ستري العالم بطريقة مختلفة … والدتك “19 سبتمبر 1937 م أسطنبول.

وصية (10) : عزيزي سعدي … بالتأكيد عرفت من الصحف وفاة جدك، لا داعي لأصف لك مدي الألم الذي أشعر به، وكم أشعر بوحدة وغربة في هذه الدنيا بدون هذين الشخصين المقدسين الأب والأم…أرجوك صلي وادعو له، لقد كان يحبك جداً، وكان يكرر لي دائماً أنك الوحيد الذي يحبه، وكم كان سعيداً بخطاباتك التي ترسلها له في الأعياد. يجب أن ترتدي كرافات سوداء. لا أستطيع أن أكتب أكثر من ذلك، أشعر بفراغ داخل رأسي. . والدتك ” 20 يناير 1939 م

خلاصة الأمر : ………………………………………………………..

كان حضور نعمت هانم الأم في حياة سعد الخادم مركزي الأهمية وطاغ. فهي تتمتع بشخصية ذكية قوية قيادية وذهنية مثقفة , لعبت دور ولى الأمر بإخلاص, بالرغم من ترملها وهي في سن صغيرة ، لها اهتمامات بالجماليات والقضايا الفكرية. وفي اعتقادي أنها هي التي اخترعت سعد الخادم الإنسا.. وهى المعلم الأول له وهي التي منحته قصته وملامح شخصيته , ودعماً نفسياً لا حدود له .. ولغته الخاصة في الرؤية والحياة والعلم . إستمع معى إلى هذا الجزء من الرسالة التالية :

عزيزى سعدى ..
“… لقد أوحشتني جداً يا صغيري سعدي .. تري عندما أراك كيف سيكون شكلك؟ وكيف ستكون حالتك؟ وطباعك، أرجو أن تظل كما أنت طيب وبسيط، ولن تتركني فريسة للإحباط! .. أتركك الآن يا عزيزي سعدي، وأقبلك بحرارة، وأحتضنك بين ذراعي. والدتك.” 15أغسطس1937

وفي النهاية ..

تلتقي كلّ المصائر في سكون ونودعكم مع هذه الأغنية .. مع كلمات الرائع الشاعر حسين السيد والحان محمد عبد الوهاب على مقام البياتى والتى ما إن نسمعها إلا وتجرى الدموع فى العيون ..
ست الحبايب يا حبيبة يا أغلى من روحي ودمي .. يا حنينة وكلك طيبة .. يارب يخليكي يا أمي .. يا ست الحبايب يا حبيبه .. زمان سهرتي وتعبتي وشلتي من عمري ليالي .. ولسه برضو دلوقتي بتحملي الهم بدالي ..أنام وتسهري وتباتي تفكري .. وتصحي من الآدان وتيجي تشقري .. يا رب يخليكي يا أمي .. يا ست الحبايب يا حبيبة ………………….

دكتور: رضـا شــحاته أبــو المجد .. “كاتب وباحث أكاديمى من مصر.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة (1) : الصورة المرفقة بالنص للفنان سعد الخادم .. العمل فى السد العالى .. طباعة مونوتيب .. منتصف الستينيات .
ملحوظة (2) : نثمن الجهد الذي بذلته الأستاذة نسمة رأفت التي قامت بترجمة دقيقة عبر الفرنسية للرسائل المقتبسة والتي تم الاستعانة بها ووردت فى النص .
‏‏ملحوظة (3) : أن النصوص الواردة للسيدة نعمت هانم ذو الفقار من الخطابات والمتبادلة مع أبنها سعد الخادم فى الفترة من 1936 إلى 1939 ، كان مصدرها الكتاب الوثائقي والمعنون باسم “الفنان سعد الخادم أرستقراطي شعبي الهوى” والصادر عن دار نشر الثقافة ، محرم بك، الإسكندري2015م. للكاتب يسرى القويضى له جزيل الشكر.

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

الثلاثاء.. المجلس الأعلى للثقافة يشهد على وفاء الطلاب لاستاذهم فى عطاء بلا حدود

التعليقات على الثلاثاء.. المجلس الأعلى للثقافة يشهد على وفاء الطلاب لاستاذهم فى عطاء بلا حدود مغلقة

دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات

التعليقات على دراسة نقدية لحسن غريب: الرصد المشهدي لمجموعة (زبيدة) القصصية للأديبة رولا حسينات مغلقة

الدكتور رضا شحاته يكتب: عشرة رسائل إنسانية عن الرائد سعد الخادم(١)

التعليقات على الدكتور رضا شحاته يكتب: عشرة رسائل إنسانية عن الرائد سعد الخادم(١) مغلقة

د.رضا شحاته يكتب الرسالة9: المرأة فى حياة سعد الخادم..”الأم.. الصديقة.. الزوجة”

التعليقات على د.رضا شحاته يكتب الرسالة9: المرأة فى حياة سعد الخادم..”الأم.. الصديقة.. الزوجة” مغلقة

حنان العمدة. . مبدعات أرض الذهب يحصدن الذهب

التعليقات على حنان العمدة. . مبدعات أرض الذهب يحصدن الذهب مغلقة

ورشة التوظيف السردى للمكان فى الرواية تناقش” الأسكندرية” فى إبداعات محمد جبريل

التعليقات على ورشة التوظيف السردى للمكان فى الرواية تناقش” الأسكندرية” فى إبداعات محمد جبريل مغلقة

وزارة الثقافة تنعى الكاتب الصحفي الكبير لويس جريس

التعليقات على وزارة الثقافة تنعى الكاتب الصحفي الكبير لويس جريس مغلقة

فوزية مهران ..ترانيم التوحيد ولغة القرآن ..عندما تكون الكتابة صلاة

التعليقات على فوزية مهران ..ترانيم التوحيد ولغة القرآن ..عندما تكون الكتابة صلاة مغلقة

محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر

التعليقات على محمد البنا يكتب: “الزماوجدانية” وأثرها في اللغة الشعرية ل/ محمد مطر مغلقة

حسن غريب يكتب: “الرقص على طبول مصرية”نبوءة فؤاد حجازي بالإرهاب وعظمة الجيش في دحره

التعليقات على حسن غريب يكتب: “الرقص على طبول مصرية”نبوءة فؤاد حجازي بالإرهاب وعظمة الجيش في دحره مغلقة

  تعليم الفن فى مصر والتيارات الموازية

التعليقات على   تعليم الفن فى مصر والتيارات الموازية مغلقة

هالة فهمى تكتب من وحي معرض الأسكندرية للكتاب: هواها.. سكندرى!!

التعليقات على هالة فهمى تكتب من وحي معرض الأسكندرية للكتاب: هواها.. سكندرى!! مغلقة

Create Account



Log In Your Account