أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
لم أجد نفسي أسيراً لشيء مثلما أنا مع الليل، وتملَّكني الحال حتى أنني لم أحسد أحداً على اسمه غير رجلٍ في قريتنا، اسمه “الليل”، هكذا فقط “الليل .. الليل أبو بشاري”، وهذا ليس لقباً، بل اسمه الذي سمّاه به أبوه..!
أفكّر: إلى أي مدى كان الحاج بشاري مرتبطاً بالليل ليقرر تسمية ابنه بهذا الاسم المغاير؟ فلا هو اسم يحمل دلالة دينية كالحسين وعثمان وعلي، ولا هو اسم محكوم بالعادة كمحمد وأحمد، ولا هو يحمل رمزية وطنية مثل سعد وجمال ومحمد علي..!
لم أدرك الحاج بشاري في حياته، وأظنه مات قبل الغزو الفوتوغرافي لقريتنا الذكية -أقصد شديدة اللهب لا القرى المصممة على الحواسيب- جداً..
أنزوي في العتمة فوق سطح الدار لأضع الاحتمالات الخاصة بالحاج بشاري صاحب الليل، هل كان عاشقاً درامياً كما هي حال العشاق الجنوبيين المشفوعة بالدراما، فمهما جرى في النهر من ماء تظل مسألة مرور قصة عشق بسلاسة في الجنوب أمراً غير محتمل الحدوث!
هل كان الحاج بشاري درويشاً صاحب خلوة، يأوي إليها إذا جَنَّ الليلُ، وجُنَّ هو بإشراقات ليلاه وأرواح أهل الله الطّوّافة في الليل!
هل كان قاطع طريق أو نطّاط حيط، قُوتُهُ لا يتحصل إلا بسهر الليالي، والتقافز على الجدران، وحدقتين مثبّتتين في ظهره بخلاف اللتين في وجهه!
هل كان خفيراً، مطارداً، صاحبَ “كوبّاية”، ولا تطيب “الكبابي” لأهلها إلا بالليل؟!
هؤلاء هم أهل الليل، سُهّاره، سادته، أربابه، العشاق والنسّاك والمطاريد وقطّاع الطرق.. أيّ نوعٍ من هؤلاء الرجال كان المرحوم بشاري ليصمم على تسمية ابنه بهذا الاسم الاستثنائي “الليل”!
الحاصل أنني أحسد “الليل”، وكلما عدتُ لقريتنا وشاهدته، يمتطي حماره، أو يعزق أرضه، أو يزعق على أطفاله، حدّقتُ فيه بشدة لأعرف أيّ نصيبٍ حازه الرجل من اسمه..!
إنني أحسده، أحسده بشدة، لأنني جربتُ الليل عاشقاً وناسكاً، بل ولصّاً؛ أسطو على شكاوى العابرين في ليل الصيدلية وأخبزها حواديت وقصائد.. ومع هذا لم أحظَ بالاسم!
أبي لا يملأ عينه رجلٌ تطلع عليه الشمس وهو نائم، وأنا لا يملأ عيني رجلٌ ليس له نصيب من الليل، ولو أمضاه ساهرًا ساهمًا!
أنتمي للفكرة التي أرّقتني بالليل، وأصدّق القصيدة التي كتبتها بالليل، وأطرب للأغنية التي اكتشفتُها في ليل، باختصار.. أحتمي بالليل. أحتمي بتجوال الرجال الذين لا يُبالون بالطرق الوعرة، والطقس المتجمد، والبنادق المترصدة، والذئاب العاوية في البعيد.
والذين ترتاح عيونهم لخُضرة الشجر في الصباح، بالتأكيد لم يُشاهدوا الشجر بالليل، الشجر -في العتمة- خفرٌ يحرسون فوّهات البيوت.
دموع الرجال في الليل معارج إلى الله..
الراديو في الليل هو معجزة القرن العشرين، صوتٌ مبحوح يتسرب من حانوت مغلق، وهو في الصباح مبتذلٌ في صالونات الحلاقة وميكروباصات الجحيم..
باختصار، كل بضاعةٍ كسدت في نهار الخلق، دخلتُ بها سوق الليل، هُوتِفتُ “رَبِحَ البيع”..!
أنا مدينٌ لليل..
مدينٌ للعتمة الكونية التي أتاحت للبوارق أن تلمع في الصدر.