الشاعر سعد عبد الرحمن يكتب: أغرب من الخيال

الشاعر سعد عبد الرحمن يكتب: أغرب من الخيال

التعليقات على الشاعر سعد عبد الرحمن يكتب: أغرب من الخيال مغلقة

هل يذكر الأدباء هذا الرجل الأسمر النحيل و البسيط المهذب الذي كان رغم شدة فقره عفيفا عن السؤال صاحب كبرياء تجعله لا يقبل أن يتفضل عليه أحد أيا كان حتى و لو بكوب من الشاي ؟
العم كمال إسماعيل ابن مدينة دمنهور عاشق الأدب و الأدباء ، كنت تجده حاضرا في أغلب مؤتمرات الثقافة الجماهيرية بمنطقة الدلتا يحمل شوالا ( كيسا كبيرا من البلاستيك ) مليئا بالأعمال الأدبية من شعر فصيح و عامي و رواية و قصة قصيرة و مسرح ، يجلس إليك لأول مرة ليتعرف عليك و على النوع الأدبي الذي تكتبه و حين يعرف يخرج لك من الكيس في كل مؤتمر يلقاك فيه كتابا أو كتابين يوافقان تخصصك الإبداعي ليعطيهما لك بدون مقابل ، لقد كان كثير من أدباء الدلتا و الصعيد أيضا ممن يشاركون في المؤتمرات مصطحبين في حقائبهم نسخا من أحدث إصداراتهم يسلمونه بعضا منها بهدف أن يقوم بتوزيعها على المستحقين بدون تكلفة و هذا ما كان يقوم به على أكمل وجه و بشكل مدهش .
كان عندما يلقاني يرحب بي بوصفي ضيفا قادما من الصعيد و إذا لم يكن معي في المؤتمر درويش الأسيوطي أو جميل عبد الرحمن أو عزت الطيري كان يسألني عنهم ، آخر مرة قابلته فيها كان في الدورة السابعة عشرة من مؤتمر أدباء مصر التي انعقدت بمركز الإسكندرية للإبداع التابع لصندوق التنمية الثقافية ( قصر الحرية سابقا ) عام 2002 و جاءني بعد انتهاء جلسات اليوم الثاني و هو يحمل في يده كيسا به علبة جبنة بيضاء و كيس سكر و باكو شاي و أربعة أرغفة و أصر على أن آخذ الكيس فهذا واجب عليه تجاهي كصديق و ضيف و حاولت أن أفهمه أني أقيم بالفندق الذي يوفر لي وجبات الاكل كاملة دون جدوى و لما طال الجدل بيني و بينه همس أحد الأصدقاء في اذني بأن آخذ منه الكيس تجنبا لزعله و أتصرف فيه بعد ذلك فأخذته منه و في طريقي إلى زيارة صديق لي بأحد ضواحي الإسكندرية أعطيت الكيس لشحاذ فقير .
قصة العم كمال إسماعيل أغرب من الخيال و قد حكاها لي بالتفصيل ( ليتني سجلت ذلك كتابة فقد أفلتت ذاكرتي كثيرا من التفاصيل ) و أهداني صورتين شخصيتين له في مؤتمرين مختلفين ( هما المنشورتان مع هذه السطور ) ، كان طالبا ذا ميول يسارية في سنة أولى جامعة ( جامعة فؤاد الأول ) و قيل في رواية أخرى و هي الأرجح أنه كان طالبا في السنة النهائية بمدرسة الصنايع في مدينة دمنهور حين قبض عليه البوليس السياسي ( الأمن الوطني الآن ) عقب إحدى التظاهرات السياسية التي كانت تنظمها لجنة العمال و الطلبة في أواخر الأربعينيات و المحزن أن أخاه عضو جماعة الإخوان المسلمين هو الذي وشى به فقد كان من وجهة نظره كافرا و تمثل أفكاره خطرا على الآخرين ، و قد تضافرت عدة عوامل شتى داخل السجن و خارجه لتنسج من حكايته مأساة شبيهة بمأساة بعض سجناء سجن الباستيل في باريس قبل أن يهدمه الثوار ( الأب فاريا النزيل المجاور في القبو للكونت دي مونت كريستو – رواية ألكسندر دوماس الشهيرة ) فقد نسي أمر كمال إسماعيل و ظل يتردد ما بين السجن و مستشفى الأمراض العقلية عقودا طويلة من الزمن فقامت ثورة يوليو و هو في السجن و تم حل الأحزاب المصرية عام 1953و جاءت أزمة مارس 1954 و استبعد نجيب و هو في السجن ثم حاول الإخوان المسلمون اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية في أكتوبر 1954 و على إثرها تم حل جماعة الإخوان المسلمين و هو في السجن و سحب صندوق النقد الدولي تمويله لمشروع بناء السد العالي فأمم الزعيم جمال عبد الناصر قناة السويس و وقع العدوان الثلاثي عام 1956و غنت المجموعة : الله أكبر فوق كيد المعتدي و غنت فايدة كامل : دع قنالي فمياهي مغرقة و ما زال العم كمال في السجن و تمت الوحدة بين مصر و سوريا 1958 و غنى محمد قنديل : وحدة ما يغلبها غلاب و أنشئ مبنى الإذاعة و التليفزيون و غنى عبد الحليم : كنا هنبني و ادي احنا بنينا السد العالي ثم حدث الانفصال عام 1962 و ما زال العم كمال في السجن و وقعت النكسة عام 1967 و غنى عبد الحليم : عدى النهار و العم كمال في السجن و خضنا حرب الاستنزاف لمدة ثلاث سنوات و مات عبد الناصر سبتمبر 1970و هو في السجن و حدث انقلاب 15 مايو 1971 و هو في السجن و طرد السادات الخبراء الروس 1972 و وقعت حرب أكتوبر و العبور العظيم عام 1973 و هو في السجن و حصلت ثغرة الدفرسوار و حاصر الصهاينة الجيش الثالث و حاولوا اقتحام مدينة السويس ( ستالينجراد مصر ) و هو في السجن و أفرج السادات عن قيادات الإخوان المسلمين 1974 و هو في السجن و سيطرت الجماعات الإسلامية على الجامعات المصرية و الشارع المصري و وقعت أحداث الفنية العسكرية ( تنظيم صالح سرية ) 1974و هو في السجن و حدثت انتفاضة 18 ، 19 يناير 1977 و تم اغتيال الشيخ الذهبي وزير الأوقاف على أيدي تنظيم التكفير و الهجرة بقيادة شكري مصطفى اكتوبر 1977 و هو في السجن ثم فاجأ السادات العالم كله بزيارة مفاجئة مجانية للقدس نوفمبر 1977و قام بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة 1979 مع العدو الصهيوني و تغير النشيد الوطني من : و الله زمن يا سلاحي إلى : بلادي بلادي و قاد الأوركسترا التي عزفت النشيد موسيقار الأجيال اللواء محمد عبد الوهاب و العم كمال في السجن في السجن ثم دخل خريف الغضب عام 1981 الذي بدأ باعتقال السادات لقيادات مختلف التيارات السياسية المصرية من أقصى اليمين إلى اليسار ثم وقعت مذبحة رجال الأمن في أسيوط و قتل خالد الإسلامبولي و رفاقه الرئيس السادات تحت سمع و بصر العالم كله و العم كمال إسماعيل داخل السجن و جاء مبارك و أفرج عن معتقلي السادات و استعادت مصر سيناء منزوعة السلاح إلا قليلا بموجب بنود الاتفاقية و غنت شادية تقول : مصر رجعت لينا تاني و مصر اليوم في عيد و ما زال العم كمال في السجن ، و في عام 1984 أو 1985 على وجه التقريب لا أدري ماذا حدث ليفطن فجأة بعض مسؤولي السجن إلى أن هناك نزيلا قضى لديهم عقودا من الزمن في غير ما جناية فأخرجوه ليجد أن أهله قد نسوه و ترتبت أوضاع الأسرة ماليا و اجتماعيا على أساس أنه ميت أو حي و لكنه أسوأ من ميت ، و كان يعيش سنوات عمره بعد خروجه من السجن في بير سلم أحد المنازل و يغطي مصاريفه البسيطة جدا إلى حد كفاف الكفاف القريب من العدم معاش ما يسمى بالتضامن الاجتماعي الذي سعى له فيه بعض أهل الخير .
كان كثيرا ما يحكي لي العم كمال عن أوضاع السجن و زبانية السجن و ملائكته و عن كثير من الشخصيات التي زاملها داخل السجن من جنائيين و سياسيين ، و من السياسيين أذكر مثلا إسماعيل المهدوي المنظر الماركسي المصري الشهير ، و من الغريب أني لم اسمع من العم كمال و هو يحكي أية كلمة نابية أو بذيئة حتى عمن كانوا يعاملونه بقسوة داخل السجن أو في مستشفى الأمراض العقلية ، و كان مثقفا يطعم جمله في أثناء الحديث ببعض الكلمات و المصطلحات العلمية في الاقتصاد و السياسة و الأدب و العلوم النفسية باللغة العربية و الإنجليزية .
رحم الله العم كمال إسماعيل الذي قضى نصف قرن تقريبا من حياته سجينا لكل الأنظمة و الحكام و كان مثالا حيا على أن الواقع أحيانا يكون أغرب الخيال .

https://www.facebook.com/noses1989/ العطر فى أنقى صورة.. أفضل ثبات وفوحان ..noses عـطور أونلاين ستغير فكرتك عن تركيب العطور.. تستحق التجربة
Related Posts

المخرجة فاطمة الحاج تكتب: التعصب على أبواب الأزهر

التعليقات على المخرجة فاطمة الحاج تكتب: التعصب على أبواب الأزهر مغلقة

الشاعر سعد عبد الرحمن يكتب: مكارثية جديدة

التعليقات على الشاعر سعد عبد الرحمن يكتب: مكارثية جديدة مغلقة

نفيسة عبد الفتاح تكتب:قتلناك يا محمود

التعليقات على نفيسة عبد الفتاح تكتب:قتلناك يا محمود مغلقة

د. محمد عبد الله حسين يكتب: فلاحة..من سجلات الشرف والفخر

التعليقات على د. محمد عبد الله حسين يكتب: فلاحة..من سجلات الشرف والفخر مغلقة

نفيسة عبد الفتاح تكتب : فلاحة “محفوظ” وسجدة “الشعراوى”

التعليقات على نفيسة عبد الفتاح تكتب : فلاحة “محفوظ” وسجدة “الشعراوى” مغلقة

نفيسة عبد الفتاح تكتب:هل من بصير؟!

التعليقات على نفيسة عبد الفتاح تكتب:هل من بصير؟! مغلقة

الإعلامي طارق عبد الفتاح يكتب: لا معقول فى دراما رمضان

التعليقات على الإعلامي طارق عبد الفتاح يكتب: لا معقول فى دراما رمضان مغلقة

سمير المنزلاوي يكتب: رجل بقلب طائر

التعليقات على سمير المنزلاوي يكتب: رجل بقلب طائر مغلقة

الدكتورة عبير حسن تكتب: خيال الظل العربي، مجموعة “بول كالة”

التعليقات على الدكتورة عبير حسن تكتب: خيال الظل العربي، مجموعة “بول كالة” مغلقة

وزارة الأثار والموازنة العامة ــ د. مختار القاضى

التعليقات على وزارة الأثار والموازنة العامة ــ د. مختار القاضى مغلقة

الإعلامي طارق عبد الفتاح يكتب: حدث بالفعل..كوميديا الكمامة!!

التعليقات على الإعلامي طارق عبد الفتاح يكتب: حدث بالفعل..كوميديا الكمامة!! مغلقة

حامد عبد القادر يكتب.. حضارة الدم وإسلام الرحمة

التعليقات على حامد عبد القادر يكتب.. حضارة الدم وإسلام الرحمة مغلقة

Create Account



Log In Your Account